إن
الاتجاهات الفقهية سارت في الاتجاه الموضوعي بينما الأبحاث التفسيرية سارت في
الاتجاه التجزيئي طبعا لم نكن نعني من ذلك أيضا أن البحث الفقهي استنفذ طاقة الاتجاه
الموضوعي فالبحث الفقهي اليوم مدعو أيضا إلى أن يستنفذ طاقة هذا الاتجاه الموضوعي أفقيا
وعموديا باعتبار أن الاتجاه الموضوعي كما قلنا عبارة عن أن الإنسان يبدأ من الواقع
وينتهي إلى الشريعة...
فأن المنهج الموضوعي في
التفسير على ضوء ما ذكرناه يكون أوسع أفقا وأرحب وأكثر عطاء باعتبار أن يتقدم خطوة
عن التفسير التجزيئي كما أنه قادر على التجدد باستمرار ، على التطور والابداع
باستمرار ، باعتبار أن التجربة البشرية تغني هذا التفسير بما تقدمه من مواد.
ثم هذه المواد تطرح بين يدي القرأن الكريم وهذا
هو الطريق الوحيد للحصول على النظريات الأساسية للاسلام وللقرأن إزاء موضوعات
الحياة المختلفة .
وقد يقال بأنه ما
الضرورة إلى تحصيل هذه النظريات الاساسية ، ما الضرورة إلى أن نفهم نظرية الإسلام
في النبوة مثلا بشكل عام أو نفهم نظرية الإسلام في سنن التاريخ أو في التغير
الاجتماعي بشكل عام أو أن نفهم سنن الإسلام والأرض ؟ ما الضرورة إلى أن ندرس ونحدد
هذه النظريات .
فإننا نجد بأن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم لم يعط هذه النظريات على شكل نظريات محدودة وصيغ عامة ، وإنما
أعطى القرآن بهذا الترتيب للمسلمين ، ما الضرورة إلى أن نتعب أنفسنا في سبيل هذه
النظريات وتحديدها بعد أن لا حظنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اكتفى باعطاء
هذا المجموع ، هذا الشكل المتراكم بهذا الشكل ما الضرورة أن نستحصل هذه النظريات
الحقيقة بأنه هناك اليوم ضرورة اساسية لتحديد هذه النظريات ولتحصيل هذه النظريات
ولا يمكن أن يفترض الاستغناء عنها.
النبي صلى الله عليه
وآله وسلم كان يعطي هذه النظريات ولكن من خلال التطبيق من خلال المناخ القرآني
العام الذي كان بينه في الحياة الإسلامية ، وكان كل فرد مسلم في إطار هذا المناخ ، كان
يحمل نظرية ولو فهما اجماليا ارتكازيا لأن المناخ والاطار الروحي والاجتماعي
والفكري والتربوي الذي وصفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قادرا على أن يعطي
النظرة السليمة ، والقدرة السليمة على تقييم المواقع والمواقف والاحداث.
إذا أردنا أن نقرب هذه الفكرة نقول : قايسوا بين
حالتين حالة الإنسان الذي يعيش داخل عرف لغة من اللغات وإنسان يريد أن يعرف أبناء
هذه اللغة ، أبناء هذا العرف ، كيف تتمثل اذهأنهم هذه المعاني إلى الالفاظ ، كيف
يحددون المعاني من الألفاظ .
هنا توجد حالتين
احداهما : أن تأتي بهذا الإنسان وتجعله يعيش في اعماق هذا العرف وفي اعماق هذه
اللغة واذا صار كذلك واستمرت به الحياة في اطار هذا العرف وهذه اللغة فترة طويلة
من الزمن سوف يتكون لديه الاطار اللغوي ، والعرفي الذي يستطيع من خلاله أن يتحرك
ذهنه وفقا لما يريده العرف واللغة منه لأن مدلولات تكون موجودة وجودا اجماليا
ارتكازيا في ذهنه ، النظرة السليمة والتفهم السليم للكلمة الصحيحة ، وتمييزها عن
الكلمة غير الصحيحة تكون موجودة عنده باعتبار أنه عاش عرف اللغة ووجدانها في
ممارساته,
بينما اذا كان الإنسان
خارج جناح تلك اللغة وعرفها واردت أن تنشئ في ذهنه القدرة على التمييز اللغوي
الصحيح فلا تستطيع التمييز اللغوي حينئذ الا عن طريق الرجوع إلى قواعد تلك اللغة ،
وإلى العرف الذي تربى فيه الإنسان لكي تستنتج منه القواعد العامة والنظريات
الشاملة.
ومثاله ما وقع بالنسبة إلى علوم العربية كيف أن
ابن اللغة لم يكن بحاجة إلى أن يعلم علوم العربية في البداية لأنه كان يعيش في
اعماق عرف اللغة ، لكن بعد أن ابتعد عن تلك الاعماق واختلفت الاجواء وضعفت اللغة ،
وتراكمت لغات اخرى أندست إلى داخل حياة هؤلاء ، بدأ هؤلاء بحاجة إلى علم لللغة ، إلى
نظريات لللغة لأن الواقع لا يسعفهم بنظرة سليمة فلا بد حينئذ من علم لا بد من
نظريات لكي يفكروا ولكي يناقشوا ولكي يتصرفوا لغويا وفقا لتلك القواعد والنظريات
هذا المثال مثال تقريبي لأجل توضيح الفكرة.
اذا الصحابة الذين
عاشوا في كنف الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم اذا كانوا لم يتلقوا النظريات
بصيغ عامة فقد تلقوها تلقيا اجماليا ارتكازيا ، انتقشت في اذهانهم وسرت في افكارهم ، كان المناخ
العام الاطار الاجتماعي والروحي والفكري الذي يعيشونه كله كان اطارا مساعدا على
تفهم هذه النظريات ولو تفهما اجماليا وعلى توليد المقياس الصحيح في مقام التقييم.
اما
حيث لا يوجد ذلك المناخ ، ذلك الاطار اذا تكون الحاجة إلى دراسة لنظريات القرآن
الكريم في الإسلام ، تكون حاجة حقيقية ملحة خصوصا مع بروز نظريات عديدة من خلال
التفاعل بين إنسان العالم الإسلامي وإنسان العالم الغربي بكل ما يملك من رصيد عظيم
ومن ثقافة متنوعة في مختلف مجالات المعرفة البشرية حينما وقع هذا التفاعل بين إنسان
العالم الإسلامي وإنسان العالم الغربين، وجد الإنسان المسلم نفسه امام نظريات
كثيرة في مختلف مجالات الحياة فكان عليه لكي يحدد موقف الإسلام من هذه النظريات ، كان
لا بد وأن يستنطق نصوص الإسلام ، ويتوغل في اعماق هذه النصوص ليصل إلى مواقف الإسلام
سلبا وايجاباً لكي يكتشف نظريات الإسلام التي تعالج نفس هذه المواضيع التي عاش
بحثها التجارب البشرية الذكية في مختلف مجالات الحياة.
اذن فالتفسير الموضوعي
في المقام هو افضل الاتجاهين في التفسير الا أن هذا لا ينبغي أن يكون المقصود منه
الاستغناء عن التفسير التجزيئي ، هذه الافضلية لا تعني استبدال اتجاه باتجاه أو
طرح التفسير التجزيئي رأسا والاخذ بالتفسير الموضوعي ، وأنما اضافة اتجاه إلى
اتجاه لأن التفسير الموضوعي ليس الا خطوة إلى الامام بالنسبة إلى التفسير التجزيئي
ولا معنى للاستغناء عن التفسير التجزيئي باتجاه الموضوعي.
وإنما هي مسألة ضم الاتجاه
الموضوعي في التفسير إلى الاتجاه التجزيئي في التفسير ، يعني افتراض خطوتين خطوة
هي التفسير التجزيئي وخطوة أخرى هي التفسير الموضوعي.
من
دروس السيد محمد باقر الصدر "مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق