الاثنين، 3 مارس 2014

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن..الدرس الرابع



قلنا إن هذه الفكرة القرآنية عن سنن التاريخ بلورت في عدد كثير من الآيات باشكال مختلفة وألسنة متعددة في بعض هذه الآيات أعطيت الفكرة بصيغتها الكلية وفي بعض الآيات أعطيت على مستوى التطبيق على مصاديق ونماذج ، في بعض الآيات وقع الحث على الاستقراء وعلى الفحص الاستقرائي للشواهد التاريخية من أجل الوصول الى السنة التاريخية وهناك عدد كثير من الآيات الكريمة استعرضت هذه الفكرة بشكل وآخر وسوف نقرأ جملة من هذه الآيات الكريمة وبعض هذه الآيات التي سنستعرضها واضح الدلالة على المقصود والبعض الآخر له نحو دلالة بشكل وآخر أو يكون معززا ومؤيدا للروح العامة لهذه الفكرة القرآنية...

 فمن الآيات الكريمة التي أعطيت فيها الفكرة الكلية ، فكرة أن التاريخ له سنن وضوابط ما يلي :         « لكل أمة أجل اذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون »
 « ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون »

نلاحظ في هاتين الآيتين الكريمتين أن الأجل أضيف الى الأمة ، الى الوجود المجموعي للناس ، لا إلى هذا الفرد بالذات او ذاك الفرد بالذات ، إذن هناك وراء الاجل المحدود المحتوم لكل انسان بوصفه الفردي ، هناك أجل آخر وميقات آخر للوجود الاجتماعي لهؤلاء الافراد ، للامة بوصفها مجتمعا ينشيء ما بين افراده العلاقات والصلات القائمة على مجموعة من الافكار والمبادىء المسندة بمجموعة من القوى والقابليات.
هذا المجتمع الذي يعبر عنه القرآن الكريم بالأمة. هذا له أجل ، له موت ، له حياة ، له حركة ، كما ان الفرد يتحرك فيكون حيا ثم يموت كذلك الامة تكون حية ثم تموت ، وكما ان موت الفرد يخضع لأجل ولقانون ولناموس كذلك الأمم لها آجالها المضبوطة وهناك نواميس تحدد لكل امة هذا الاجل ، اذن هاتان الآيتان الكريمتان فيهما عطاء واضح للفكرة الكلية ، فكرة ان التاريخ له سنن تتحكم به وراء السنن الشخصية التي تتحكم في الافراد ، بهوياتهم الشخصية

 « وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم * ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون » 
« ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون » 
 « أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون » 

ظاهر الآية الكريمة أن الأجل الذي يترقب أن يكون قريبا أو يهدد هؤلاء بأن يكون قريبا هو الاجل الجماعي لا الاجل الفردي،   لأن قوما بمجموعهم لا يموتون عادة في وقت واحد وإنما الجماعة بوجودها المعنوي الكلي هو الذي يمكن أن يكون قد اقترب أجله.
فالاجل الجماعي هنا يعبر عن حالة قائمة بالجماعة لا عن حالة قائمة بهذا الفرد او بذاك ، لان الناس عادة تختلف آجالهم حينما ننظر اليها بالمنظار الفردي ، لكن حينما ننظر اليهم بالمنظار الاجتماعي بوصفهم مجموعة واحدة متفاعلة في ظلمها وعدلها ، في سرائها وضرائها ، حينئذ يكون لها أجل واحد. فهذا الاجل الجماعي المشار اليه انما هو أجل الامة وبهذا تلتقي هذه الآية الكريمة مع الآيات السابقة ...

 «وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا * وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكم موعدا » 

 « ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم الى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون » 

«ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا » 

في هاتين الآيتين الكريمتين تحدث القرآن الكريم عن أنه لو كان الله يريد أن يؤاخذ الناس بظلمهم وبما كسبوا لما ترك على ساحة الناس من دابة ولهلك الناس جميعا.
وقد وقعت مشكلة في كيفية تصوير هذا المفهوم القرآني حيث أن الناس ليسوا كلهم ظالمين عادة ، فيهم الانبياء ، فيهم الائمة الأوصياء
هل يشمل الهلاك الانبياء والائمة العدول من المؤمنين؟ 
حتى أن بعض الناس استغل هاتين الآيتين لإنكار عصمة الأنبياء (ع) والحقيقة أن هاتين الآيتين تتحدثان عن عقاب دنيوي لا عن عقاب أخروي ، تتحدث عن النتيجة الطبيعية لما تكسبه امة عن طريق الظلم والطغيان.
 هذه النتيجة الطبيعية لا تختص حينئذ بخصوص الظالمين من ابناء المجتمع بل تعم أبناء المجتمع على اختلاف هوياتهم وعلى اختلاف انحاء سلوكهم

حينما وقع التيه على بني اسرائيل نتيجة ما كسب هذا الشعب بظلمه وطغيانه وتمرده ، هذا التيه لم يختص بخصوص الظالمين من بني اسرائيل وانما شمل موسى (ع) شمل أطهر الناس وأذكى الناس ، وأشجع الناس في مواجهة الظلمة والطواغيت ، لأن موسى (ع) جزء من تلك الامة وقد حل الهلاك بها قد قرر نتيجة ظلمهم أن يتيهوا أربعين عاما وبهذا شمل التيه موسى (ع).

حينما حل البلاء والعذاب بالمسلمين نتيجة انحرافهم فاصبح يزيد بن معاوية خليفة عليهم يتحكم في دمائهم واموالهم واعراضهم وعقائدهم ، حينما حل هذا البلاء لم يختص بالظالمين من المجتمع الاسلامي ، وقتئذ شمل الحسين (ع) ، أطهر الناس وأزكى الناس واطيب الناس وأعدل الناس. شمل الامام المعصوم (ع) فقتل تلك القتلة الفظيعة هو واصحابه وأهل بيته.

هذا كله هو منطق سنة التاريخ والعذاب حينما يأتي في الدنيا على مجتمع وفق سنن التاريخ ، لا يختص بالظالمين من ابناء ذلك المجتمع ولهذا قال القرآن الكريم في آية اخرى « واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب »  بينما يقول في موضع آخر « ولا تزر وازرة وزر أخرى ».

فالعقاب الأخروي دائما ينصب على العامل مباشرة، وأما العقاب الدنيوي فيكون أوسع من ذلك ، إذن هاتان الآيتان تتحدثان عن سنن التاريخ لا عن العقاب بالمعنى الاخروي والعذاب بمقاييس يوم القيامة بل عن سنن التاريخ وما يمكن أن يحصل نتيجة كسب الامة ، سعي الامة ، جهد الامة... 

 « وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا  سنة من قد أرسلنا  قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا » 
هذه الآية الكريمة أيضا تؤكد المفهوم العام ، يقول « ولا تجد لسنتنا تحويلا » ، هذه سنة سلكناها مع الأنبياء من قبلك وسوف تستمر ولن تتغير ، أهل مكة يحاولون أن يستفزوك لتخرج من مكة لأنهم عجزوا عن إمكانية القضاء عليك وعلى كلمتك وعلى دعوتك ، ولهذا صار أمامهم طريق واحد وهو إخراجك من مكة.

وهناك سنة من سنن التاريخ سوف يأتي شرحها بعد ذلك يشار إليها في هذه الآية الكريمة. وهي أنه إذا وصلت عملية المعارضة إلى مستوى إخراج النبي من هذا البلد بعد عجز هذه المعارضة عن كل الوسائل والأساليب الأخرى فإنهم لا يلبثون بعده إلا قليلا. ليس المقصود من أنهم لا يلبثون إلا قليلا يعني أنه سوف ينزل عليهم عذاب الله سبحانه وتعالى من السماء ، لأن أهل مكة أخرجوا النبي بعد نزول هذه السورة. استفزوه وأرعبوه وخرج النبي (ص) من مكة إذ لم يجد له أمانا وملجأ فيها فخرج إلى المدينة ولم ينزل عذاب من السماء على أهل مكة ، وانما المقصود في أكبر الظن من هذا التعبير أنهم لا يمكثون كجماعة صامدة معارضة يعني كموقع اجتماعي لا يمكثون ، لا كأناس ، كبشر ، وانما هذا الموقع سوف ينهار نتيجة هذه العملية ، لا يمكثون إلا قليلا.
 لأن هذه النبوة التي عجز هذا المجتمع عن تطويقها سوف تستطيع بعد ذلك أن تهز هذه الجماعة كموقع للمعارضة ، وهذا ما وقع فعلا. فإن رسول الله (ص) حين أخرج من مكة لم يمكثوا بعده إلا قليلا ، إذ فقدت المعارضة في مكة موقعها ، وتحولت مكة الى جزء من دار الإسلام بعد سنين معدودة.

إذن الآية تتحدث عن سنة من سنن التاريخ ، وتؤكد وتقول « ولا تجد لسنتنا تحويلا »

 « قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين »
 تؤكد هذه الآية على السنن وتؤكد على الحق والتتبع لأحداث التاريخ من أجل استكشاف هذه السنن والاعتبار بها.

 «ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين ... » 
هذه الآية أيضا تثبت قلب رسول الله (ص) ، تحدثه عن التجارب السابقة ، تربطه بقانون التجارب السابقة توضح له أن هناك سنة تجري عليه وتجري على الأنبياء الذين مارسوا التجربة من قبله وأن النصر سوف يأتيه ولكن للنصر شروطه الموضوعية : الصبر والثبات واستكمال الشروط ، هذا هو طريق الحصول على هذا النصر ، ولهذا يقول «فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى اتاهم نصرنا ، لا مبدل لكلمات الله » إذن هناك كلمة لله لا تتبدل على مر التاريخ هذه الكلمة هي علاقة قائمة بين النصر وبين مجموعة من الشروط والقضايا والمواصفات وضحت في آيات متفرقة وجمعت على وجه الاجمال هنا. اذن فهناك سنة للتاريخ

 « ... فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا * استكبارا في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء الا بأهله  فهل ينظرون إلا سنة الاولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا » 

« لو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا *  سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا » 

هناك آيات استعرضت نماذج من سنن التاريخ « إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » 

المحتوى الداخلي النفسي والروحي للانسان هو القاعدة ، الوضع الاجتماعي هو البناء العلوي ، لا يتغير هذا البناء العلوي إلا وفقا لتغير القاعدة على ما يأتي ان شاء الله شرحه بعد ذلك. هذه الآية اذن تتحدث عن علاقة معينة بين القاعدة والبناء العلوي ، بين الوضع النفسي والروحي والفكري للانسان وبين الوضع الاجتماعي ، بين داخل الانسان وبين خارج الأنسان ، فخارج الانسان يصنعه داخل الانسان ، مرتبط بداخل الانسان ، فاذا تغير ما بنفس القوم تغير وضعهم ، وعلاقاتهم والروابط التي تربط بعضهم ببعض. اذن فهذه سنةمن سنن التاريخ ربطت القاعدة بالبناء العلوي
 « ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » 
 « أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب » 
 يستنكر عليهم أن يأملوا في أن يكون لهم استثناء من سنن التاريخ ، هل تطمعون ان يكون لكم استثناء من سنة التاريخ! وان تدخلوا الجنة وان تحققوا النصر وانتم لم تعيشوا ما عاشته تلك الامم التي انتصرت ودخلت الجنة من ظروف البأساء والضراء التي تصل الى حد الزلزال على ما عبر القرآن الكريم ، ان هذه الحالات ، حالات البأساء والضراء التي تتعملق على مستوى الزلزال هي في الحقيقة مدرسة للامة ، هي امتحان لارادة الامة ، لصمودها ، لثباتها ، لكي تستطيع بالتدريج ان تكتسب القدرة على ان تكون امة وسطا بين الناس.
 اذن نصر الله قريب لكن النصر له طريق. هكذا يريد ان يقول القرآن. نصر الله ليس أمرا عفويا ، ليس أمرا على سبيل الصدفة ، ليس امرا عمياويا. نصر الله قريب ولكن اهتدي الى طريقه ، الطريق لا بد ان تعرف فيه سنن التاريخ ، لا بد وان تعرف فيه منطق التاريخ لكي تستطيع ان تهتدي فيه الى نصر الله سبحانه وتعالى ، قد يكون الدواء قريبا من المريض لكن اذا كان هذا المريض لا يعرف تلك المعادلة العلمية التي تؤدي الى اثبات ان هذا الدواء يقضي على جرثومة هذا الداء ، لا يستطيع ان يستعمل هذا الدواء حتى ولو كان قريبا منه.

اذن الاطلاع على سنن التاريخ هو الذي يمكن الانسان من التوصل الى النصر. فهذه الآية تستنكر على المخاطبين لها ان يكونوا طامعين في الاستثناء من سنن التاريخ

 « ... وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين .. » 
هذه علاقة قائمة بين النبوة على مر التاريخ وبين موقع المترفين والمسرفين في الامم والمجتمعات. هذه العلاقة تمثل سنة من سنن التاريخ ، وليست ظاهرة وقعت في التاريخ صدفة والا لما تكررت بهذا الشكل المطرد لما قال « وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها » اذن هناك علاقة سلبية ، هناك علاقة تطارد وتناقض ، بين موقع النبوة الاجتماعي في حياة الناس على الساحة التاريخية والموقع الاجتماعي للمترفين والمسرفين ، هذه العلاقة ترتبط في الحقيقة بدور النبوة في المجتمع ودور المترفين والمسرفين في المجتمع. هذه العلاقة جزء من رؤية موضوعية عامة للمجتمع ، بما سوف يتضح ان شاء الله حينما نبحث عن دور النبوة في المجتمع والموقع الاجتماعي للنبوة ، سوف يتضح حينئذ ان النقيض الطبيعي للنبوة هي موقع المترفين والمسرفين. اذن هذه سنة من سنن التاريخ


 « .. واذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا * وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا » 
هذه الآية أيضا تتحدث عن علاقة معينة بين ظلم يسود ويسيطر وبين هلاك تجر اليه الامة جرا. وهذه العلاقة ايضا الآية تؤكد انها علاقة مطردة على مر التاريخ وهي سنة من سنن التاريخ

 « ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ... » 
« ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون » 
 « وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا »
 « بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون » 
هذه الآيات الثلاث تتحدث عن علاقة معينة هي علاقة بين الاستقامة وتطبيق احكام الله سبحانه وتعالى وبين وفرة الخيرات وكثرة الانتاج ـ وبلغة اليوم بين عدالة التوزيع وبين وفرة الانتاج ـ القرآن يؤكد ان المجتمع الذي تسوده العدالة في التوزيع هذه العدالة في التوزيع التي عبر عنها القرآن ـ تارة ـ « ألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا » ـ وأخرى ـ « لو أن أهل القرى آمنوا واتقوا » ـ واخرى ـ بأنهم « لو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل » ، لأن شريعة السماء نزلت من اجل تقرير عدالة التوزيع ، من اجل انشاء علاقات التوزيع على اسس عادلة ، يقول لو انهم طبقوا عدالة التوزيع لما وقعوا في ضيق من ناحية الثروة المنتجة وفي فقر بل لازداد الثراء والمال وازدادت الخيرات والبركات. لكنهم تخيلوا ان عدالة التوزيع تقتضي الفقر بينما الحقيقة السنة التاريخية تؤكد عكس ذلك ، 
تؤكد بأن تطبيق شريعة السماء وتجسيد احكامها في علاقات التوزيع تؤدي دائما وباستمرار الى زيادة الانتاج والى كثرة الثروة ، الى ان يفتح على الناس بركات السماء والارض. اذن هذه ايضا سنة من سنن التاريخ.

وهناك آيات اخرى اكدت على الاستقراء والنظر والتدبر في الحوادث التاريخية من اجل تكوين نظرة استقرائية من اجل الخروج بنواميس وسنن كونية للساحة التاريخية

 « ...أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها .. »

« أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم » 

 « وكأي من قرية أهلكناها وهي ظالمة وهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد ، أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ... »
 « وكم أهلكنا قبلهم من قرية هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص ، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب او ألقى السمع وهو شهيد ... » 
من مجموع هذه الآيات الكريمة يتبلور المفهوم القرآني .. وهو تأكيد القرآن على ان الساحة التاريخية لها سنن ولها ضوابط كما يكون هناك سنن وضوابط لكل الساحات الكونية الاخرى .. وهذا المفهوم القرآني يعتبر فتحا عظيما للقرآن الكريم .. لاننا بحدود ما نعلم القرآن اول كتاب عرفه الانسان أكد على هذا المفهوم وكشف عنه وأصر عليه وقاوم بكل ما لديه من وسائل الاقناع والتفهيم ، قاوم النظرة العفوية او النظرة الغيبية الاستسلامية بتفسير الاحداث ، الانسان الاعتيادي كان يفسر احداث التاريخ بوصفها كومة متراكمة من الاحداث ، يفسرها على اساس الصدفة تارة وعلى اساس القضاء والقدرة والاستسلام لامر الله سبحانه وتعالى.
القرآن الكريم قاوم هذه النظرة العفوية وقام هذه النظرة الاستسلامية ونبه العقل البشري الى ان هذه الساحة لها سنن ولها قوانين وانه لكي تستطيع ان تكون انسانا فاعلا مؤثرا لا بد لك ان تكتشف هذه السنن ، لا بد وان تتعرف على هذه القوانين لكي تستطيع ان تتحكم فيها والا تحكمت هي فيك وانت مغمض العينين ، افتح عينيك على هذه القوانين وعلى هذه السنن لكي تكون أنت المتحكم لا لكي تكون هذه السنن هي المتحكمة فيك.

هذا الفتح القرآني الجليل هو الذي مهد الى تنبيه الفكر البشري بعد ذلك بقرون الى ان تجرى محاولات لفهم التاريخ فهما عمليا بعد نزول القرآن بثمانية قرون بدأت هذه المحاولات على أيدي المسلمين انفسهم فقام ابن خلدون بمحاولة لدراسة التاريخ وكشف سننه وقوانينه ثم بعد ذلك بأربعة قرون ( على اقل تقدير ) اتجه الفكر الاوربي في بدايات ما يسمى بعصر النهضة ، بدأ لكي يجسد هذا المفهوم الذي ضيعه المسلمون ، والذي لم يستطع المسلمون ان يتوغلوا الى اعماقه ، هذا المفهوم اخذه الفكر الغربي في بدايات عصر النهضة وبدأت هناك ابحاث متنوعة ومختلفة حول فهم التاريخ وفهم سننه ونشأت على هذا الاساس اتجاهات مثالية ومادية ومتوسطة ومدارس متعددة ، كل واحدة منها تحاول ان تحدد نواميس التاريخ. وقد تكون المادية التاريخية اشهر هذه المدارس واوسعها تغلغلا واكثرها تأثيرها في التاريخ نفسه ، اذن كل هذا الجهد البشري في الحقيقة هو استمرار لهذا التنبيه القرآني ويبقى للقرآن الكريم مجده في انه طرح هذه الفكرة لاول مرة على ساحة المعرفة البشرية.

من دروس السيد محمد باقر الصدر "مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن" .                                                 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق