الخميس، 13 مارس 2014

مقدمات في التفسير المضوعي ...الدرس السادس


قلنا إن الساحة التاريخية ساحة اهتمامات المؤرخين لا يستوعبها كل التاريخ لأن هذه الساحة تشتمل على ظواهر كونية وطبيعية ، فيزيائية وحياتية وفسلجية أيضا.

هذه الظواهر تحكمها قوانينها النوعية على الرغم من أن بعض هذه الظواهر ذات أهمية بالمنظار التاريخي.
 من منظار المؤرخين تعتبر هذه حوادث ذات أهمية لها بعد زمني في امتداد تيار الحوادث التاريخية ولكنها مع هذا لا تحكمها سنن التاريخ بل تحكمها سننها الخاصة.

سنن التاريخ تحكم ميدانا معينا من الساحة التاريخية، هذا الميدان يشتمل على ظواهر متميزة تميزا نوعيا عن سائر الظواهر الكونية والطبيعية، وباعتبار هذا التميز النوعي استحقت سننا متميزة ايضا تميزا نوعيا عن سنن بقية الساحات الكونية.

المميز العام للظواهر التي تدخل في نطاق سنن التاريخ هو أن هذه الظواهر تحمل علامة جديدة لم تكن موجودة في سائر الظواهر الأخرى الكونية والطبيعية والبشرية.

الظواهر الكونية والطبيعية كلها تحمل علاقة ظاهرة بسبب مسبب، بسبب نتيجة، بمقدمات، هذه العلاقة موجودة في كل الظواهر الكونية والطبيعية.

 الغليان ظاهرة طبيعية مرتبطة بظروف معينة، بدرجة حرارة معينة، بدرجة معينة ممن قرب هذا الماء من النار. هذا الارتباط ارتباط المسبب بالسبب، العلاقة هنا علاقة السببية، علاقة الحاضر بالماضي، بالظروف المسبقة المنجزة.

 لكن هناك ظواهر على الساحة التاريخية تحمل علاقة من نمط آخر وهي علاقة ظاهرة بهدف علاقة نشاط بغاية او ما يسميه الفلاسفة بالعلة الغائية تميزا عن العلة الفاعلية، هذه العلاقة علاقة جديدة متميزة.

 غليان الماء بالحرارة، يحمل مع سببه مع ماضيه لكن لا يحمل علاقة مع غاية ومع هدف مالم يتحول الى فعل انساني والى جهد بشري. بينما العمل الانساني الهادف يحتوي على علاقة لا فقط مع السبب، لا فقط مع الماضي، بل مع الغاية التي هي غير موجودة حين انجاز هذا العمل وانما يترقب وجودها. أي العلاقة هنا علاقة مع المستقبل لا مع الماضي، الغاية دائما تمثل المستقبل بالنسبة الى العمل، بينما السبب يمثل الماضي بالنسبة الى هذا العمل.

فالعلاقة التي يتميز بها العمل التاريخي ، العمل الذي تحكمه سنن التاريخ هو أنه عمل هادف ، عمل يرتبط بعلة غائية سواءا كانت هذه الغاية صالحة او طالحة ، نظيفة أو غير نظيفة ، على أي حال يعتبر هذا عملا هادفا ، يعتبر نشاطا تاريخيا يدخل في نطاق سنن التاريخ على هذا الاساس وهذه الغايات التي يرتبط بها هذا العمل الهادف المسؤول ، هذه الغايات حيث أنها مستقبلية بالنسبة الى العمل فهي تؤثر من خلال وجودها الذهني في العامل لا محالة ، لأنها بوجودها الخارجي ، بوجودها الواقعي ، طموح وتطلع الى المستقبل ، ليست موجودة وجودا حقيقيا وانما تؤثر من خلال وجودها الذهني في الفاعل.

إذن المستقبل أو الهدف الذي يشكل الغاية للنشاط التاريخي يؤثر في تحريك هذا النشاط وفي بلورته من خلال الوجود الذهني أي من خلال الفكر الذي يمثل فيه الوجود الذهني للغاية ضمن شروط ومواصفات، حينئذ يؤثر في ايجاد هذا النشاط.

إذ حصلنا الآن على مميز نوعي للعمل التاريخي لظاهرة على الساحة التاريخية، هذا المميز غير موجود بالنسبة الى سائر الظواهر الاخرى على ساحات الطبيعة المختلفة، هذا المميز "ظهور علاقة فعل بغاية نشاط بهدف في التفسير الفلسفي"، ظهور دور العلة الغائية، كون هذا الفعل متطلعا الى المستقبل، كون المستقبل محركا لهذا الفعل من خلال الوجود الذهني الذي يرسم للفاعل غايته أي من خلال الفكر.

 إذن هذا هو في الحقيقة دائرة السنن النوعية للتاريخ. السنن النوعية للتاريخ موضوعها ذلك الجزء من الساحة التاريخية الذي يمثل عملا له غاية، عملا يحمل علاقة اضافية الى العلاقات الموجودة في الظاهرة الطبيعية وهي العلاقة بالغاية والهدف، بالعلة الغائية.

لكن ينبغي هنا أيضا انه ليس كل عمل له غاية هو عمل تاريخي، هو عمل تجري عليه سنن التاريخ بل يوجد بعد ثالث لا بد ان يتوفر لهذا العمل لكي يكون عملا تاريخيا أي عملا تحكمه سنن التايخ. البعد الاول كان هو «السبب» والبعد الثاني كان هو الغاية «الهدف».
لا بد إذن من بعد ثالث لكي يكون هذا العمل داخلا في نطاق سنن التاريخ.

 هذا البعد الثالث هو ان يكون لهذا العمل أرضية تتجاوز ذات العامل، ان تكون أرضية العمل هي عبارة عن المجتمع، العمل الذي يخلق موجا، هذا الموج يتعدى الفاعل نفسه ويكون أرضيته الجماعة التي يكون هذا الفرد جزءا منها طبعا الامواج على اختلاف درجاتها هناك موج محدود، هناك موج كبير. لكن العمل لا يكون عملا تاريخيا الا إذا كان له موج يتعدى حدود العامل الفردي، قد يأكل الفرد إذا جاع،
ويشرب اذا عطش ، وينام اذا أحس بحاجته الى النوم ، لكن هذه الأعمال على الرغم من انها أعمال هادفة أيضا تريد ان تحقق غايات ولكنها أعمال لا يمتد موجها اكثر من العامل خلافا لع مل يقوم به الانسان من خلال نشاط اجتماعي وعلاقات متبادلة مع افراد جماعته، فمثلا التاجر حينما يعمل عملا تجاريا أو القائد حينما يعمل عملا حربيا أو السياسي حينما يمارس عملا سياسيا ، المفكر حينما يتبنى وجهة نظر في الكون والحياة ، هذه الأعمال موج يتعدى شخص العامل ، يتخذ من المجتمع أرضية له ، ويمكننا ايضا ان نستعين بمصطلحات الفلاسفة فنقول : المجتمع يشكل علة مادية لهذا العمل ، يتبدل من مصطلحات الفلاسفة التمييز الارسطي بين العلة الفاعلية والعلة الغائية والعلة المادية ، هنا نستعين بهذه المصطلحات لتوضيح الفكرة. فنقول المجتمع يشكل علة مادية لهذا العمل، أي أرضية العمل، لحالة من هذا القبيل يعتبر هذا العمل عملا تاريخيا ويعتبر عملا للأمة وللمجتمع وان كان الفاعل المباشر في جملة من الأحيان هو فرد واحد أو عدد من الافراد ولكن باعتبار الموج يعتبر المجتمع.

إذن العمل التاريخي الذي تحكمه سنن التاريخ هو العمل الذي يكون حاملا لعلاقة مع هدف وغاية ويكون في نفس الوقت ذا أرضية اوسع
من حدود الفرد ، ذا موج يتخذ من المجتمع علة مادية له وبهذا يكون عمل المجتمع.


وفي القرآن الكريم نجد تمييزا بين عمل الفرد وعمل المجتمع ونلاحظ في القرآن الكريم انه من خلال استعراضه للكتب الغيبية الاحصائية تحدث القرآن عن كتاب للفرد وتحدث عن كتاب للأمة، عن كتاب يحصي على الفرد عمله وعن كتاب يحصي على الأمة عملها.

 وهذا تمييز دقيق بين العمل الفردي الذي ينسب الى الفرد وبين عمل الأمة، بين العمل الذي له ثلاثة ابعاد والعمل الذي له بعدان. العمل الذي له بعدان لا يدخل الا في كتاب الفرد واما العمل الذي له ثلاثة ابعاد فهو يدخل في الكتابين. يدخل في كتاب الأمة ويعرض على الأمة وتحاسب الأمة على أساسه.

لاحظوا قوله تعالى
«وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى الى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون. هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون» سورة الجاثية: الآية (٢٨ ـ ٢٩).

هنا القرآن الكريم يتحدث عن كتاب للأمة، أمة جاثية بين يدي ربها ويقدم لها كتابها، يقدم لها سجل نشاطها وحياتها التي مارستها كأمة، هذا العمل الهادف ذو الابعاد الثلاثة يحتوي هذا الكتاب، وهذا الكتاب ـ انتبهوا الى العبارة ـ يقول «إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون» هذا الكتاب ليس تاريخ الطبري لا يسجل الوقائع الطبيعية، الفسلجية، الفيزيائية، إنما يمدد ويستنسخ ما كانوا يعملون كأمة. ما كانت الأمة تعمله كأمة يعني العمل الهادف ذو الموج بحيث يكون العمل منسوبا للأمة وتكون الأمة مدعوة الى كتابها. هذا العمل هو الذي يحتويه هذا الكتاب.

بينما في آية اخرى نلاحظ قوله سبحانه وتعالى
« وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا » سورة الاسراء : الآية (١٣).
هنا الموقف يختلف، هنا كل انسان مرهون بكتابه، لكل انسان كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من أعماله من حسناته وسيئاته وهفواته وسقطاته من صعوده ونزوله الا وهو محصي في ذلك الكتاب.

والكتاب الذي كتب بعلم من لا يغرب عن علمه مثقال ذرة في الارض. كل انسان قد يفكر ان بامكانه ان يخفي نقطة ضعف، ان يخفي ذنبا، سيئة عن جيرانه وقومه وامته، واولاده، وحتى عن نفسه ، يخدع نفسه يرى انه لم يركب سيئة ولكن هذا الكتاب الحق لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها ، في ذلك اليوم يقال أنت حاسب نفسك لان هذه الأعمال التي مارستها سوف تواجهها في هذا الكتاب ان تحكم على نفسك بموازين الحق في يوم القيامة في ذلك اليوم لا يمكن لاي انسان ان يخفي شيئا عن الموقف ، عن الله سبحانه وتعالى ، وعن نفسه.
هذا كتاب الفرد وذاك كتاب الأمة.

هناك كتاب لامة جاثية بين يدي ربها ، وهنا لكل فرد كتاب.

 هذا التمييز النوعي القرآني بين كتاب الأمة وكتاب الفرد تعبير آخر عما قلناه من ان العمل التاريخي هو ذاك العمل الذي يتمثل في كتاب الأمة، العمل الذي له ابعاد ثلاثة بل ان الذي يستظهر ويلاحظ من عدد آخر من الآيات القرآنية الكريمة انه ليس فقط يوجد كتاب للفرد ويوجد كتاب للأمة بل يوجد احضار للفرد ويوجد احضار للأمة. هنا احضارات بين يدي الله سبحانه وتعالى الاحضار الفردي يأتي بكل انسان فردا فردا، لا يملك ناصرا ولا معينا، لا يملك شيئاً يستعين به في ذلك الموقف الا العمل الصالح والقلب السليم والايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، هذا هو الاحضار الفردي. قال الله تعالى «إن كل من في السموات والأرض إلا آت الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا» سورة التغابن: الآية (٩).



هذا الاحضار هو احضار فردي بين يدي الله تعالى وهناك احضار آخر ، احضار للفرد في وسط الجماعة ، احضار للأمة بين يدي الله سبحانه وتعالى كما يوجد هناك سجلان كذلك يوجد احضاران « كما تقدم » ، ترى كل امة جاثية تدعى الى كتابها ، ذاك احضار للجماعة ، والمستأنس به من سياق الآيات الكريمة انه هذا الاحضار الثاني يكون من اجل اعادة العلاقات الى نصابها الحق ، العلاقات داخل الأمة قد تكون غير قائمة على اساس الحق ، فقد يكون الانسان المستضعف فيها جديرا بأن يكون في اعلى الأمة ، هذه الأمة تعاد فيها العلاقات الى نصابها الحق. هذا اليوم هو اليوم الذي سماه القرآن الكريم بيوم التغابن،

 كيف يحصل التغابن؟..  يحصل التغابن عن طريق اجتماع المجموعة ثم كل انسان كان مغبونا في موقعه في الأمة، في وجوده في الأمة، بقدر ما كان مغبونا في موقعه في الأمة يأخذ حقه، يأخذ حقه يوم لا كلمة الا للحق.


لاحظوا قوله تعالى
«يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن». إذن فهناك سجلان هناك سجل لعمل الفرد، وهناك سجل لعمل الأمة وعمل الأمة هو عبارة عما قلناه في العمل الذي يكون له ثلاث ابعاد، بعد من ناحية العامل ما يسميه ارسطو بـ «العلة الفاعلية»، وبعد من ناحية الهدف ما يسميه ارسطوا بـ «العلة الغائية»، وبعد من ناحية الأرضية وامتداد الموج ما يسمونه بـ «العلة المادية». هذا العمل ذو الابعاد الثلاثة هو موضوع سنن التاريخ، هذا هو عمل المجتمع.

لكن لا ينبغي ان يوهم ذلك ما توهمه عدد من المفكرين والفلاسفة الاوربيين من ان المجتمع كائن عملاق له وجود وحدوي عضوي متميز عن سائر الافراد وكل فرد ليس الا بمثابة الخلية في هذا العملاق الكبير، «هكذا تصور هيجل مثلا» وجملة من الفلاسفة الاوروبيين، تصورا عمل المجتمع بهذا النحو، أرادوا أن يميزوا بين عمل المجتمع وعمل الفرد فقال بأنه يوجد عندنا كائن عضوي واحد عملاق هذا الكائن الواحد هو في الحقيقة يلف في احشاءه وتندمج في كيانه كل الافراد. لكل فرد يشكل خلية في هذا العملاق الواحد وهو يتخذ من كل فرد نافذة على الواقع على العالم بقدر ما يمكن ان يجسد في هذا الفرد من قابلياته هو ومن ابداعه هو، إذن كل قابلية وكل ابداع، وكل فكر هو تعبير عن نافذة من النوافذ التي يعبر عنها ذلك العملاق الهيجلي، هذا التصور اعتقد به جملة من الفلاسفة الاوربيين تمييزا لعمل المجتمع عن عمل الفرد الا ان هذا التصور ليس صحيحا ، ولسنا بحاجة اليه والى الاغراق في الخيال الى هذه الدرجة لكي ننحت هذا العملاق الاسطوري من هؤلاء الافراد ، ليس عندنا الا الافراد زيد وبكر وخالد ، ليس عندنا ذلك العملاق المستتر من ورائهم ، « طبعاً مناقشة هيجل من الزاوية الفلسفية يخرج من حدود هذا البحث ومتروك الى بحث آخر » لان هذا التفسير الهيجلي للمجتمع مرتبط بحسب الحقيقة بكامل الهيكل النظري لفلسفته الا ان الشيء الذي نريد أن نعرفه موقع اقدامنا من هذا التصور ، هذا التصور ليس صحيحا ، نحن لسنا بحاجة الى مثل هذا الافتراض الاسطوري لكي نميز بين عمل الفرد وعمل المجتمع ، لان التمييز بين عمل الفرد وعمل المجتمع يتم من خلال ما اوضحناه من البعد الثالث. عمل الفرد هو العمل الذي يكون له بعدان فان اكتسب بعدا ثالثا كان عمل المجتمع، باعتبار ان المجتمع يشكل أرضية له، يشكل علة مادية له. يدخل حينئذ في سجل كتاب الأمة الجاثية بين يدي ربها هذا هو ميزان الفرق بين العملين.


إذن الشيء الذي نستخلصه مما تقدم ان موضوع السنن التاريخية هو العمل الهادف الذي يشكل أرضية ويتخذ من المجتمع او الأمة أرضية له على اختلاف سعة الموجة وضيق الموجة هذا هو موضع السنن التاريخية.


من دروس السيد محمد باقر الصدر "مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن" .                                                 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق