الاثنين، 31 مارس 2014

مقدمات في التفسير المضوعي ...الدرس الثامن


قلنا بأن توضيح واقع هذه السنة القرآنية في سنن التاريخ يتطلب منا أن نحلل عناصر المجتمع ، ما هي عناصر المجتمع من زاوية نظر القرآن الكريم ، ما هي مقومات المركب الاجتماعي ، كيف يتم التنفيذ بين هذه العناصر والمقومات وضمن أي اطار وأي سنن؟

 هذه الأسئلة نحصل على جوابها في النص القرآني الشريف الذي تحدث عن خلق الانسان الأول

 « وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك » سورة البقرة/30.
حينما نستعرض هذه الآية الكريمة نجد أن الله سبحانه وتعالى ينبأ الملائكة بأنه قرر إنشاء مجتمع على الأرض. فما هي العناصر التي تتحدث عن هذه الحقيقة العظيمة؟ 

هناك ثلاثة عناصر يمكن استخلاصها من العبارة القرآنية :


١ ـ الانسان.

٢ ـ الأرض أو الطبيعة على وجه عام « إني جاعل في الأرض خليفة » 

فهناك أرض أو طبيعة على وجه عام وهناك الانسان الذي يجعله الله سبحانه وتعالى على الأرض.

٣ ـ العلاقة المعنوية التي تربط الانسان بأرض وبالطبيعة وتربط من ناحية أخرى الانسان بأخيه الانسان هذه العلاقة المعنوية التي سماها القرآن الكريم بالاستخلاف.

 ونحن حينما نلاحظ المجتمعات البشرية نجد انها جميعا تشترك بالعنصر الأول والعنصر الثاني ، فلا يوجد مجتمع بدون انسان يعيش مع أخيه الانسان ولا يوجد مجتمع بدون أرض أو طبيعة يمارس الانسان عليها دوره الاجتماعي 

وفي هذين العنصرين تتفق المجتمعات التاريخية والبشرية. واما العنصر الثالث : ففي كل مجتمع علاقة كما ذكرنا ولكن المجتمعات تختلف طبيعة هذه العلاقة وفي كيفية صياغتها.


فالعنصر الثالث هو العنصر المرن والمتحرك من عناصر المجتمع وكل مجتمع يبني هذه العلاقة بشكل قد يتفق وقد يختلف مع طريقة بناء المجتمع الآخر لها. 
وهذه العلاقة لها صيغتان أحدهما صيغة رباعية وقد اطلق عليها اسم
 « الصيغة الرباعية»  والأخرى صيغة ثلاثية.

الصيغة الرباعية : هي الصيغة التي ترتبط بموجبها الطبيعة والانسان مع الانسان ، هذه اطراف ثلاثة فالعلاقة اذن اتخذت صيغة تربط بموجبها بين هذه الاطراف وهي الطبيعة والانسان مع أخيه الانسان.

 ولكن مع افتراض طرف رابع أيضا ، الصيغة الرباعية تربط بين هذه وهذا الطرف الرابع ليس داخلا في اطار المجتمع وانما خارج عن اطاره. ولكن الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية تعتبر هذا الطرف الرابع مقوما من المقومات الاساسية للعلاقة الاجتماعية على رغم خروجه خارج اطار المجتمع ، وهذه الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية ذات الابعاد الاربعة هي التي طرحها القرآن الكريم تحت اسم الاستخلاف.

الاستخلاف اذن هو العلاقة الاجتماعية من زاوية نظر القرآن الكريم وعند تحليل الاستخلاف نجد انه ذو اربعة اطراف لانه يفترض مستخلفا ايضا. لا بد من مستخلَف ومستخلف عليه ، ومستخلِف

فهناك إضافة إلى الانسان وأخيه الانسان والطبيعة يوجد طرف رابع في طبيعة وتكوين علاقة الاستخلاف وهو المستخلِف اذ لا استخلاف بدون مستخلِف ، فالمستخلِف هو الله سبحانه وتعالى والمستخلَف هو الانسان وأخوه الانسان ، أي الانسانية ككل الجماعة البشرية والمستخلف عليه هو الارض وما عليها ومن عليها.

فالعلاقة الاجتماعية ضمن صيغة الاستخلاف تكون ذات أطراف أربعة وهذه الصيغة تنطبق بوجهة نظر معينة نحو الحياة والكون بوجهة نظر قائلة بأنه لا سيد ولا إله للكون وللحياة إلا الله سبحانه وتعالى وأن دور الانسان في ممارسة حياته إنما هو دور الاستخلاف والاستئمام وأي علاقة تنشأ بين الانسان والطبيعة فهي في جوهرها ليست علاقة مالك بمملوك وانما هي علاقة امين على امانة استؤمن عليها وأي علاقة تنشأ بين الانسان واخيه الانسان مهما كان المركز الاجماعي لهذا او لذاك فهي علاقة استخلاف وتفاعل بقدر ما يكون هذا الانسان مؤديا لواجبه بهذه الخلافة وليس علاقة سيادة أو الوهية او مالكية.

 هذه الصيغة الاجتماعية الرباعية الاطراف التي صاغها القرآن الكريم تحت اسم الاستخلاف ترتبط بوجهة النظر المعينة للحياة والكون.

في مقابلها يوجد للعلاقة الاجتماعية صيغة ثلاثية الاطراف ، صيغة تربط بين الانسان والانسان والطبيعة ولكنها تقطع صلة هذه الاطراف مع الطرف الرابع ، تجرد تركيب العلاقة الاجتماعية عن البعد الرابع ، عن الله سبحانه وتعالى. وبهذا تتحول نظرة كل جزء الى الجزء الاخر داخل هذا التركيب وداخل هذه الصيغة.

وجدت الالوان المختلفة للملكية والسيادة ، سيادة الانسان على أخيه الانسان باشكالها المختلفة التي استعرضها التاريخ بعد ان عطل البعد الرابع وبعد ان افترض ان البداية هي الانسان ، حينئذ تنوعت على مسرح الصيغة الثلاثية اشكال الملكية واشكال السيادة ، سيادة الانسان على اخيه الانسان.

وبالتدقيق في المقارنة بين الصيغتين ، الصيغة الرباعية والصيغة الثلاثية يتضح ان اضافة الطرف الرابع للصيغة الرباعية ليس مجرد اضافة عددية ، ليس مجرد طرف جديد يضاف الى الاطراف الاخرى بل ان هذه الاضافة تحدث تغييرا نوعيا في بنية العلاقة الاجتماعية وفي تركيب الاطراف الثلاثة الاخرى نفسها.

 ليس هذا مجرد عملية جمع ثلاثة زائد واحد ، بل هذا الواحد الذي يضاف الى الثلاثة سوف يعطي للثلاثة روحا أخرى ومفهوما آخر ، سوف يحدث تغييرا اساسيا في كنية هذه العلاقة ذات الاطراف الاربعة كما رأينا، إذ يعود الانسان مع اخيه الانسان مجرد شركاء في محل هذه الامانة والاستخلاف وتعود الطبيعة بكل ما فيها من ثروات وبكل ما عليها ومن عليها مجرد امانة لابدّ من رعاية واجبها واداء حقها.


هذا الطرف الرابع هو في الحقيقة مغير نوعي لتركيب العلاقة.

إذاََ أمامنا للعلاقة الاجتماعية صيغتان صيغة رباعية وصيغة ثلاثية والقرآن الكريم آمن بالصيغة الرباعية كما رأينا في الآية الكريمة ، الاستخلاف هو الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية لكن القرآن الكريم اكثر من أنه آمن بالصيغة الرباعية في المقام أعتبر الصيغة الرباعية سنة من سنن التاريخ كما رأينا في الآية السابقة كيف اعتبر الدين سنة من سنن التاريخ كذلك اعتبر الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية التي هي صيغة الدين في الحياة. اعتبر هذه العلاقة بصيغتها الرباعية سنة من سنن التاريخ. كيف؟

هذه الصيغة الرباعية عرضها القرآن الكريم على نحوين :

عرضها تارة بوصفها فاعلية ربانية من زاوية دور الله سبحانه وتعالى في العطاء. وهذا هو العرض الذي قرأناه « إني جاعل في الارض خليفة».

هذه العلاقة الرباعية معروضة في هذا النص الشريف باعتبارها عطاءا من الله ، جعلا من الله يمثل الدور الايجابي والتكريمي من رب العالمين للانسان .


وعرض الصيغة الرباعية نفسها من زاوية أخرى. عرضها بوصفها وبنحو ارتباطها مع الانسان بما هي أمر يتقبله الانسان. عرضها من زاوية تقبل الانسان لهذه الخلافة وذلك في قوله سبحانه وتعالى
 « إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا » سورة الأحزاب/72

الأمانة هي الوجه التقبلي للخلافة ، الخلافة هي الوجه الفاعلي والعطائي للامانة ، الامانة والخلافة عبارة عن الاستخلاف والاستئمان وتحمل الاعباء

عبارة عن الصيغة الرباعية وهذه تارة نلحظها من زاوية ربطها بالفاعل وهو الله سبحانه وتعالى بقوله « إني جاعل في الأرض خليفة » وأخرى نلحظها من زاوية القابل كما يقول الفلاسفة ، من ناحية دور الانسان في تقبل هذه الخلافة وتحمل هذه الامانة وذلك بقوله تعالى « وعرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال ... » وهذه الامانة التي تقبلها الانسان وتحملها حينما عرضت عليه بعض هذه الآية الكريمة ،


هذه الامانة أو هذه الخلافة أو بالتفسير الذي قلناه هذه العلاقة الاجتماعية بصيغتها الرباعية. لم تعرض على الانسان بوصفها تكليفا أو طلبا ليس المقصود من عرضها على الانسان هو العرض على مستوى التكليف والطلب وليس المقصود من تقبل هذه الامانة هو تقبل هذه الخلافة على مستوى الامتثال والطاعة ، ليس المفروض ان يكون هكذا العرض وان يكون هكذا التقبل بقرينة ان هذا العرض كان معروضا على الجبال ايضا ، على السماوات والارض ايضا.

فمن الواضح أنه لا معنى لتكليف السماوات والجبال والارض. نعرف من ذلك أن هذا العرض ليس عرض تشريعي ، هذا العرض معناه أن هذه العطية الربانية كانت تفتش عن الموضع المنسجم معها بطبيعته ، بفطرته ، بتركيبه التاريخي والكوني ، الجبال لا تنسجم مع هذه الخلافة ، السماوات والارض لا تنسجم مع هذه العلاقة الاجتماعية الرباعية. الانسان هو الكائن الوحيد الذي بحكم تركيبه وبحكم بنيته وبحكم فطرة الله التي قرأناها في الآية السابقة كان منسجما مع هذه العلاقة الاجتماعية ذات الاطراف الاربعة والتي تصبح أمانة وخلافة.

إذاََ العرض هنا عرض تكويني والقبول هنا قبول تكويني وهو معنى سنة التاريخ يعني ان هذه العلاقة الاجتماعية ذات الاطراف الاربعة داخلة في تكوينة الانسان وفي تركيب مسار الانسان الطبيعي والتاريخي.


 ونلاحظ أنه في هذه الآية الكريمة ايضا جاءت الاشارة إلى هذه السنة التاريخية وأنها سنة من الشكل الثالث. سنة تقبل التحدي وتقبل العصيان. ليست من تلك السنن التي لا تقبل التحدي ابدا ولو للحظة ، لا .. هي سنة فطرة ولكن هذه الفطرة تقبل التحدي.


كيف أشار القرآن الكريم الى ذلك بعد أن أوضح أنها سنة من سنن التاريخ؟

 قال : « وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا » هذه العبارة الأخيرة « إنه كان ظلوما جهولا » تأكيد على طابع هذه السنة وأن هذه السنة على الرغم من انها سنة من سنن التاريخ ولكنها سنة تقبل التحدي ، تقبل أن يقف الانسان منها موقفا سلبيا. 

هذا التعبير يوازي تعبير « ولكن اكثر الناس لا يعلمون » في الآية السابقة 


إذاََ الآية السابقة استخلصنا منها أن الدين سنة من سنن الحياة ومن سنن التاريخ ومن هذه الآية نستخلص أن صيغة الدين للحياة التي هي عبارة عن العلاقة الاجتماعية الرباعية ، العلاقة الاجتماعية ذات الاطراف الاربعة التي يسميها القرآن بالخلافة والامانة والاستخلاف ، هذه العلاقة الاجتماعية هي ايضا بدورها سنة من سنن التاريخ بحسب مفهوم القرآن الكريم.

فالحقيقة ان الآية الاولى والآية الثانية متطابقتان تماما في مفادهما لانه في الآية الاولى قال

 « فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم » سورة الروم/30

 التعبير بالدين القيم تأكيد على أن ما هو الفطرة وما هو داخل في تكوين الانسان وتركيبه وفي مسار تاريخه هو الدين القيم يعني ان يكون هذا الدين قيما على الحياة ان يكون مهيمنا على الحياة ، هذه القيمومة في الدين هي التعبير المجمل في تلك الآية عن العلاقة الاجتماعية الرباعية التي طرحت في الآيتين ، في آية « إني جاعل في الأرض خليفة » وآية « إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض » فالدين سنة الحياة والتاريخ ، الدين يدخل فيها بعداً رابعا لكي يحدث تغييرا في كنية هذه العلاقة لا لكي تكون مجرد اضافة عددية.


هذه مفاهيم القرآن الكريم مستخلصة من هذه الآيات عن هذه السنة ، اما كيف نريد ان نتعرف بصورة اوضح وأوسع عن هذه السنة ، عن دور التاريخ كسنة ، عن دور الدين القيم ودور الخلافة والامانة ، عن دور العلاقة الاجتماعية ذات الاطراف الاربعة ، دور الطرف الرابع. ما هو دوره كسنة من سنن التاريخ ، وكيف كان سنة من سنن التاريخ؟ ، وكيف كان مقوما اساسيا لمسار الانسان على الساحة التاريخية؟ 

لكي نتعرف على ذلك لا بد من ان نتعرف على الركنين الثابتين في العلاقة الاجتماعية.

 هناك ركنان ثابتان في العلاقة الاجتماعية أحدهما الانسان وأخوه الانسان والآخر الطبيعة ، الكون والأرض. هذان الركنان داخلان في الصيغة الثلاثية وداخلان في الصيغة الرباعية ، ومن هنا نسميهما بالركنين الثابتين في العلاقة الاجتماعية لكي نعرف دور الركن الجديد ودور هذا الركن الجديد ، دور هذا الطرف الرابع ، دور الله سبحانه وتعالى في تركيب العلاقة الاجتماعية ، يجب ان نعرف مقدمة لذلك دور الركنين الثابتين.


ما هو دور الانسان في عملية التاريخ من زاوية النظرة القرآنية ، من زاوية النظرة للقرآن والفهم الرباني من القرآن للتاريخ وسنن الحياة؟

ما هو دور الانسان في العلاقة الاجتماعية؟

وما هو دور الطبيعة في العلاقة الاجتماعية؟

على ضوء تشخيص هذين الدورين وتحديد هذين الموقفين ، سوف يتضح حينئذ دور هذا الطرف الجديد ، دور الطرف الرابع الذي تتميز به الصيغة الرباعية عن الصيغة الثلاثية. ويتضح ان هذا الطرف الرابع عنصر ضروري بحكم سنة التاريخ وتركيب خلقة الانسان ولابدّ وان يندمج مع الاطراف الاخرى لتكوين علاقة اجتماعية رباعية الاطراف.

إذاََ ففهم هذه السنة التاريخية يتطلب منا ان نتحدث عن دور الانسان والطبيعة في عملية التاريخ من زاوية نظر القرآن الكريم وهذا ما سيأتي انشاء الله.

من دروس السيد محمد باقر الصدر "مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن"



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق