الخميس، 22 مايو 2014

مقدمات في التفسير الموضوعي..الدرس الحادي عشر


قال الله سبحانه وتعالى  «يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه » ( سورة الانشقاق/6)

 هذه الآية الكريمة تضع الله سبحانه وتعالى هدفا أعلى للانسان والانسان هنا بمعنى الانسانية ككل، فالانسانية بمجموعها تكدح نحو الله سبحانه وتعالى والكدح هنا كدح الانسانية ككل ، نحو الله سبحانه وتعالى، يعني السير المستمر بالمعاناة والجهد والمجاهدة، لأن هذا السير ليس سيرا اعتياديا ، بل هو سير ارتقائي ، هو تصاعد وتكامل، هو سير تسلق ، فهؤلاء الذين يتسلقون الجبال ليصلوا الى القمم يكدحون نحو هذه القمم ، يسيرون سير معاناة وجهد. كذلك الانسانية حينما تكدح نحو الله فانما هي تتسلق الى قمم كمالها وتكاملها وتطورها الى الافضل باستمرار.

 وهذا السير الذي يحتوي على المعاناة باستمرار يفترض طريقا لا محالة فإن السير نحو هدف يفترض حتما طريقا ممتدا بين السائر وبين ذلك الهدف. وهذا الطريق هو الذي تحدثت عنه الآيات الكريمة في المواضع المتفرقة تحت اسم سبيل الله واسم الصراط واسم صراط الله هذه الصيغ القرآنية المتعددة كلها تتحدث عن الطريق الذي يفترضه ذلك السير وكما أن السير يفترض الطريق، كذلك الطريق يفترض السير أيضا وهذه الآية الكريمة «يا أيها الانسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه » تتحدث عن حقيقة قائمة  عن واقع موضوعي ثابت. فهي ليست بصدد دعوة الناس الى أن يسيروا في طريق الله سبحانه وتعالى ، ليست بصدد الطلب والتحريك ، كما هو الحال في آيات أخرى في مقامات وسياقات قرآنية أخرى.


الآية القرآنية الكريمة لا تقول يا أيها الناس تعالوا الى سبيل الله ، توبوا الى الله، بل تقول « يا أيها الانسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه »، لغة الآية لغة التحدث عن واقع ثابت وحقيقة قائمة وهي أن كل سير وكل تقدم للانسان في مسيرته التاريخية الطويلة الامد ، فهو تقدم نحو الله سبحانه وتعالى وسير نحو الله سبحانه وتعالى حتى تلك الجماعات التي تمسكت بالمثل المنخفضة وبالآلهة المصطنعة واستطاعت ان تحقق لها سيرا ضمن خطوة على هذا الطريق الطويل ، حتى هذه الجماعات التي يسميها القرآن بالمشركين هم يسيرون هذه الخطوة نحو الله ، هذا التقدم بقدر فاعليته وبقدر زخمه هو اقتراب نحو الله سبحانه وتعالى ، لكن هناك فرق بين تقدم مسؤول وتقدم غير مسؤول ( على ما يأتي شرحه ان شاء الله ) ، حينما تتقدم الانسانية في هذا المفاض واعية على المثل الاعلى وعيا موضوعيا يكون التقدم تقدما مسؤولا ، يكون عبادة بحسب لغة الفقه ، لونا من العبادة يكون له امتداد على الخط الطويل وانسجام مع الوضع العريض للكون ، وأما حينما يكون التقدم منفصلا عن الوعي على ذلك المثل فهو تقدم على أي حال ، سير نحو الله على أي حال ، ولكنه تقدم غير مسؤول على ما يأتي تفصيله.


اذن التقدم هو تقدم نحو الله ، حتى أولئك الذين ركضوا وراء سراب كما تحدثت الآية الكريمة فإن هؤلاء الذين يركضون وراء السراب الاجتماعي ، وراء المثل المنخفضة ، حينما يصلوا الى هذا السراب لا يجدون شيئا ، ويجدون الله سبحانه وتعالى فيوفيهم حسابهم كما تتحدث الآية الكريمة ، والله سبحانه وتعالى هو نهاية هذا الطريق ولكنه ليس نهاية جغرافية ليس نهاية على نمط النهايات الجغرافية للطرق الممتدة مكانيا. كربلاء مثلا نهاية طريق ممتد بين النجف وكربلاء ، كربلاء بمعناها المكاني نهاية جغرافية ، ومعنى انها نهاية جغرافية انها موجودة على آخر الطريق ، ليست موجدة على طول الطريق ، لو أن انسانا سار نحو كربلاء ووقف في نصف الطريق لا يحصل على شيء من كربلاء ، لا يحصل على حفنة من تراب كربلاء اطلاقا ، لان كربلاء نهاية جغرافية موجودة في آخر الطريق ، ولكن الله سبحانه وتعالى ليس نهاية على نمط النهايات الجغرافية ، الله سبحانه وتعالى هو المطلق ، هو المثل الاعلى ، أي المطلق الحقيقي العيني ، وبحكم كونه هو المطلق ، اذن هو موجود على طول الطريق أيضا ، ليس هناك فراغ منه ، ليس هناك انحسار عنه ، ليس هناك حد له ، الله سبحانه وتعالى هو نهاية الطريق ولكنه موجود أيضا على طول الطريق ، من وصل الى نصف الطريق ، من وصل الى سرابه ، فتوقف واكتشف انه سراب ، ماذا يجد؟ ماذا وجد في الآية؟ .. وجد الله فوفاه الله حسابه لان المطلق موجود على طول الطريق وبقدر زخم الطريق وبقدر التقدم في الطريق يجد الانسان مثله الاعلى ، يلقى الله سبحانه وتعالى اينما توقف بحجم سيره ، وبحجم تقدمه على هذا الطريق. وبحكم أن الله سبحانه وتعالى هو المطلق اذن الطريق ايضا لا ينتهي هذا الطريق طريق الانسان نحو الله هو اقتراب مستمر يقدر التقدم الحقيقي نحو الله ، ولكن هذا الاقتراب يبقى اقترابا نسبيا ، يبقى مجرد خطوات على الطريق من دون ان يجتاز هذا الطريق ، لان المحدود لا يصل الى المطلق ، الكائن المتناهي لا يمكن ان يصل الى اللامتناهي ، فالفسحة الممتدة بين الانسان وبين المثل الاعلى هنا فسحة لا متناهية ، أي انه ترك له مجال الابداع الى اللانهاية ، مجال التطور التكاملي الى اللانهاية ، بأعتبار أن الطريق الممتد طريق لا نهائي.

 وهذا المثل الاعلى الحقيقي حينما تتبناه المسيرة الانسانية وتوفق بين وعيها البشري والواقع الكوني الذي يفترض هذا المثل الاعلى حقيقة قائمة كما افترضته الآية ، المسيرة الانسانية حينما توفق بين وعيها على المسيرة وبين الواقع الكوني لهذه المسيرة ، بوصفها سائرة ومتجهة نحو الله سوف يحدث تغيير كيفي وكمي على هذه المسيرة ، هذه الحركة سوف يحدث فيها تغيير كيفي وكمي.

أما التغير الكمي على هذه الحركة فهو باعتبار ما أشرنا اليه من أن الطريق حينما يكون طريقا الى المثل الاعلى الحق يكون طريقا غير متناهي ، أي أن مجال التطور والابداع ، والنمو قائم ابدا ودائما ، مفتوح للانسان باستمرار من دون توقف هذا المثل الاعلى حينما يتبنى سوف نمسح من الطريق كل الآلهة المزورة ، كل الاصنام وكل الاقزام المتصنمة على طريق الانسان التي تقف عقبة بين الانسان وبين وصوله الى الله سبحانه وتعالى ، ومن هنا كان دين التوحيد صراعا مستمرا مع مختلف اشكال الالهة والمثل المنخفضة والتكرارية التي حاولت ان تتحد من كمية الحركة الى نقطة ثم تقول قف أيها الانسان. هذه الالهة التي أرادت أن توقف الانسان في وسط الطريق ، وفي نقطة معينة كان دين التوحيد على مر التاريخ هو حامل لواء المعركة ضدها ، هذا المثل الاعلى اذن سوف يحدث تغييرا كميا على الحركة لانه يطلقها من عقالها ، يطلقها من هذه الحدود المصطنعة لكي تسير بأستمرار وأما التغيير الكيفي الذي يحدثه المثل الاعلى على هذه المسيرة فهذا التغيير الكيفي هو اعطاء الحل الموضوعي الوحيد للجدل الانساني ، للتناقض الانساني ، اعطاء الشعور بالمسؤولية الموضوعية لدى الانسان ، الانسان من خلال ايمانه بهذا المثل الاعلى ووعيه على طريق بحدوده الكونية الواقعية من خلال هذا الوعي ينشأ بصورة موضوعية ، شعور معمق لديه بالمسؤولية تجاه هذا المثل الاعلى لاول مرة في تاريخ المثل البشرية التي حركت البشر على مر التاريخ ، لماذا؟

لان هذا المثل الاعلى حقيقة وواقع عيني منفصل عن الانسان وبهذا يعطي للمسؤولية شرطها المنطقي فان المسؤولية الحقيقية لا تقوم الا بين جهتين بين مسؤول ومسؤول لديه. اذا لم تكن هناك جهة أعلى من هذا الكائن المسؤول واذا لم يكن هذا الكائن المسؤول مؤمنا بأنه بين يديه جهة أعلى لا يمكن ان يكون شعوره بالمسؤولية شعورا موضوعيا ، شعورا حقيقيا ، مثلا تلك المثل المنخفضة ، تلك الالهة ، تلك الاقزام المتعملقة على مر التاريخ ، على مر المسيرة البشرية هي في الحقيقة لم تكن كما رأينا وكما حللنا الا افرازا بشريا ، الا انتاجا انسانيا ، يعني انها جزء من الانسان جزء من كيان الانسان ، والانسان يمكن ان يستشعر بصورة موضوعية حقيقة المسؤولية تجاه ما يفرزه ، هو اتجاه ما يصنعه هو « إن هي إلا أسماء سميتموها » تلك المثل لا تصنع الشعور الموضوعي بالمسؤولية ، نعم قد تصنع قوانين ، قد تصنع عادات ، قد تصنع أخلاق ، ولكنها كلها عطاء ظاهري ، وكلما وجد هذا الانسان مجالا للتحلل من هذه العادات ، ومن هذه الاخلاق ، ومن هذه القوانين فسوف يتحلل.


بينما المثل الاعلى لدين التوحيد ، للانبياء على مر التاريخ باعتباره واقعا عينيا منفصلا عن الانسان ، باعتباره جهة اعلى من الانسان ليست افرازا بشريا ، ليست انتاجا انسانيا ، اذن سوف يتوصل للشعور بالمسؤولية ، شرطه الموضوعي في المقام ، لماذا كان الانبياء على مر التاريخ أصلاب الثوار على الساحة التاريخية ، أنظف الثوار على الساحة التاريخية ، لماذا كانوا على الساحة التاريخية فوق كل مساومة ، فوق كل مهادنة ، فوق كل تململ يمنة او يسرة ، لماذا كانوا هكذا ، لماذا انهار كثير من الثوار على مر التاريخ ولم يسمع أن نبيا من أنبياء التوحيد انهار أو تململ او أنحرف يمنة او يسرة عن الرسالة التي بيده وعن الكتاب الذي يحمله من السماء؟ لان المثل الاعلى المنفصل عنه الذي فوقه هو الذي اعطاه نفحة موضوعية من الشعور بالمسؤولية وهذا الشعور بالمسؤولية تجسد في كل كيانه في كل مشاعره وافكاره وعواطفه ، ومن هنا كان النبي معصوما على مر التاريخ ، اذن هذا المثل الاعلى بحسب الحقيقة يحدث تغييرا كيفيا على المسيرة لانه يعطي الشعور بالمسؤولية ، وهذا الشعور بالمسؤولية ليس أمرا عرضيا ، ليس امرا ثانويا في مسيرة الانسان ، بل هو شرط أساسي في امكان انجاح هذه المسيرة وتقديم الحل الموضوعي للتناقض الانساني للجدل الانساني ، لان الانسان يعيش تناقضا بحسب تركيبه وخلقته ، لانه هو تركيب من حفنة من تراب ونفخة من روح الله سبحانه وتعالى كما وصفت ذلك الآيات الكريمة.


الآيات الكريمة قالت بان الانسان خلق من تراب ، وقالت بانه نفخ فيه من روحه سبحانه وتعالى ، اذا فهو مجموع نقيضين اجتمعا والتحما في الانسان ، حفنة التراب تجره الى الارض ، تجره الى الشهوات الى الميول ، تجره الى كل ما ترمز اليه الارض من انحدار وانحطاط وروح الله سبحانه وتعالى التي نفخها فيها تجره الى أعلى تتسامى بانسانيته الى حيث صفات الله ، الى حيث اخلاق الله ، تتخلق باخلاق الله ، الى حيث العلم الذي لا حد له والقدرة التي لا حد لها ، الى حيث العدل الذي لا حد له ، الى حيث الجود والرحمة والانتقام ، الى حيث هذه الاخلاق الالهية ، هذا الانسان واقع في تيار هذا التناقض ، في تيار هذا الجدل بحسب محتواه النفسي ، بحسب تركيبه الداخلي ، هذا الجدل وهذا التناقض الذي احتوته طبيعة الانسان وشرحته قصة آدم على ما يأتي انشاء الله تعالى ، هذا الجدل الانساني له حل واحد فقط ، هذا الحل الواحد الذي يمكن ان يفرض لهذا التناقض هو الشعور بالمسؤولية لا الشعور المنبثق عن هذا الجدل فان الشعور المنبثق عن نفس هذا الجدل لا يحل هذا الجدل بل هو يساهم في افراز هذا التناقض وهذا الشعور الموضوعي بالمسؤولية لا يكفله الا المثل الاعلى الذي يكون جهة عليا ، يحس الانسان من خلالها بانه بين يدي رب قادر سميع بصير محاسب مجاز على الظلم ، مجاز على العدل.

 اذن هذا الشعور الموضوعي بالمسؤولية الذي هو التغير الكيفي على المسيرة هو في الحقيقة الحل الوحيد للتناقض وللجدل الذي تستبطنه طبيعة الانسان وتركيب الانسان. دور دين التوحيد اذن هو عبارة عن تعبيد هذا الطريق الطويل الطويل ، تعبيده وازالة العوائق من خلال تنمية الحركة كميا وكيفيا ومحاربة تلك المثل المصطنعة والمنخفضة والتكرارية التي تريد ان تجمد الحركة من ناحية وأن تعريها من الشعور بالمسؤولية من ناحية اخرى ، ومن هنا كان حرب الانبياء كما أشرنا كان حرب الانبياء مع الالهة المصطنعة على مر التاريخ ، ولما كان كل مثل من هذه المثل العليا التي تتحول الى تمثال ضمن ظروف تطورها بالشكل الذي شرحناه فيما سبق ، حينما تتحول الى تمثال نجد في مجموعة من الناس ، تجد فيهم مدافعين طبيعيين عنها باعتبار ان مجموعة من الناس ترتبط مصالحهم وترفهم وكيانهم المادي والدنيوي ببقاء هذا المثال الذي تحول الى تمثال ولهذا يقف دائما هؤلاء الذين يرتبطون مصلحيا بهذا التمثال ، يقفون دائما في وجهه الانبياء ليدافعوا عن مصالحهم ، عن دنياهم ، عن ترفهم ، ومن هنا ابرز القرآن الكريم سنة من سنن التاريخ وهي ان الانبياء دائما كانوا يواجهون المترفين من مجتمعاتهم كقطب آخر من المعارضة مع هذا النبي لان هذا المترف المستفيد من هذا المثال بعد ان تحول الى ذلك التمثال هذا المثال تحول الى تمثال فمن هو المستفيد منه؟ المستفيد منه المترفون في ذلك المجتمع ، المنعمون على حساب الناس الذين يجعلون من هذا التمثال مبررا لوجودهم ، من هنا يكون من الطبيعي ان هؤلاء المترفين وهؤلاء المستفيدين تجدهم دائما في الخط المعارض للانبياء ، «وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون » (سورة الزخرف/23).

« وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون » (سورة سبأ/34)

 « سأصرف عن آياتي الذي يستكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها. وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا. وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين » ( سورة الاعراف/146)

« وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الاخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون » (سورة المؤمنون/33).

 اذن دين التوحيد هو الذي يستأصل مصالح هؤلاء المترفين بالقضاء على آلهتهم وعلى مثلهم التي تحولت الى تماثيل ، يقطع صلة البشرية بهذه المثل العليا المنخفضة ولكنه لا يقطع صلتها بهذه المثل العليا المنخفضة لكي يطأ برأسها في التراب ، لكي يحولها الى كومة مادية ليس لها اشواق ليس لها طموحات ليس لها تطلعات الى اعلى كما هو شأن الثوار الماديين الذين يستلهمون من المادية التأريخية ومن الفهم المادي للتاريخ ، اولئك ايضا يحاربون هذه الالهة المصطنعة ويسمونها أفيون الشعوب ونحن ايضا نحارب هذه الالهة المصطنعة ولكننا نحن نحاربها لا لكي نحول الانسان الى حيوان ، لا لكي نقطع صلة الانسان بأشواقه العليا ، لا لكي نحول مسار الانسان من اعلى الى أسفل وانما نقطع صلة الانسان بهذه المثل المنخفضة لكي نشده الى المثل الاعلى لكي نشده الى الله سبحانه وتعالى وتبني المسيرة البشرية لهذا المثل الاعلى الحق الذي يحدث هذه التغيرات الكيفية والكمية على اتجاه المسيرة وحجمها ، تبني المسيرة البشرية لهذا المثل يتوقف على عدة أمور :


١ ـ على رؤية واضحة فكريا وايديولوجيا لهذا المثل الاعلى وهذه الرؤية الواضحة لهذا المثل الاعلى هو الذي تقدمه عقيدة التوحيد على مر التاريخ ، عقيدة التوحيد التي تنطوي على الايمان بالله سبحانه وتعالى ، التي توحد بين كل المثل ، بين كل الغايات وكل الطموحات وكل التطلعات البشرية وتوحد بينها في هذا المثل الاعلى الذي هو علم كله وقدرة كله وعدل كله وروحمة ، كله انتقام من الجبارين. هذا المثل الاعلى الذي تتوحد فيه كل الطموحات وكل الغايات ، هذا المثل الاعلى تعطينا عقيدة التوحيد رؤية واضحة له ، تعلمنا على ان نتعامل مع صفات الله واخلاق الله بوصفها حقائق عينية منفصلة عنا كما يتعامل فلاسفة الاغريق وانما نتعامل مع هذه الصفات والاخلاق بوصفها رائدا عمليا ، بوصفها هدفا لمسيرتنا العملية ، بوصفها مؤشرات على الطريق الطويل للانسان نحو الله سبحانه وتعالى. عقيدة التوحيد هي التي توفر هذا الشرط الاول وهو الرؤية الواضحة فكريا وايديولوجيا للمثل اعلى.


٢ ـ لابدّ من طاقة روحية مستمدة من هذا المثل الاعلى لكي تكون هذه الطاقة الروحية رصيدا ووقودا مستمرا للارادة البشرية على مر التاريخ ، هذه الطاقة الروحية ، هذا الوقود الذي يستمد من الله سبحانه وتعالى يتمثل في عقيدة يوم القيامة ، في عقيدة الحشر والامتداد ، عقيدة يوم القيامة تعلم الانسان ان هذه الساحة التاريخية الصغيرة التي يلعب عليها الانسان مرتبطة ارتباطا وثيقا بساحات برزخية وبساحات حشرية في عالم البرزخ والحشر. وان مصير الانسان على تلك الساحات العظيمة الهائلة مرتبط بدوره على هذه الساحة التاريخية. هذه العقيدة تعطي تلك الطاقة الروحية وذلك الوقود الرباني الذي ينعش ارادة الانسان ويحقق له دائما قدرته على التمديد والاستمرار.


٣ ـ ان هذا المثل الاعلى الذي تحدثنا عنه يختلف عن المثل العليا الاخرى التكرارية والمنخفضة التي تحدثنا عنها سابقا على اساس ان هذا المثل منفصل عن الانسان ، ليس جزءا من الانسان ، ليس من افراز الانسان ، بل هو منفصل عنه ، هو واقع عيني قائم هناك ، قائم في كل مكان وليس جزءا من الانسان ، هذا الانفصال يفرض وجود صلة موضوعية بين الانسان وهذا المثل الاعلى. بينما المثل الاخرى السابقة كانت انسانية ، كانت افرازا بشريا لاحاجة الى افتراض صلة موضوعية ، نعم هناك طواغيت وفراعنة على مر التاريخ نصبوا من انفسهم صلات موضوعية بين البشرية وبين آلهة الشمس ، آلهة الكواكب ولكنها صلة موضوعية مزيفة لان هذا الاله هناك كان وهما ، كان وجودا ذهنيا ، كان افرازا انسانيا ، اما هنا المثل الاعلى منفصل عن الانسان ولهذا كان لابدّ من صلة موضوعية تربط هذا الانسان بذلك المثل الاعلى. وهذه الصلة الموضوعية تتجسد في النبي في دور النبوة ، فالنبي هو ذلك الانسان الذي يركب بين الشرط الاول والشرط الثاني بأمر الله سبحانه وتعالى ، بين رؤية ايديولوجية واضحة للمثل الاعلى وطاقة روحية مستمدة من الايمان بيوم القيامة ، يركب بين هذين العنصرين ثم يجسد بدور النبوة. الصلة بين المثل الاعلى والبشرية هذا المركب الى البشرية بشيرا ونذيرا.


٤ ـ البشرية بعد ان تدخل مرحلة يسميها القرآن مرحلة الاختلاف على ما يأتي ان شاء الله شرحه في الدروس القادمة سوف لن يكفي مجيء البشير النذير لان مرحلة الاختلاف تعني مرحلة انتصاب تلك المثل المنخفضة او التكرارية ، تعني وجود تلك الالهة المزورة على الطريق ، وجود تلك الحواجب والعوائق عن الله سبحانه وتعالى ، اذن لابدّ للبشرية من ان تخوض معركة ضد الآلهة المصطنعة ، ضد تلك الطواغيت والمثل المنخفضة التي تنصب من نفسها قيما على البشرية وحاجب وقاطع طريق بالنسبة للمسيرة التاريخية ، لابدّ من معركة ضد هذه الآلهة ، لابدّ من قيادة تتبنى هذه المعركة وهذه القيادة هي الامامة ، هي دور الامام ، الامام هو القائد الذي يتولى هذه المعركة. 

ودور الامامة يندمج مع دور النبوة في مرحلة من مراحل النبوة يتحدث عنها القرآن وسوف نتحدث عنها ان شاء الله تعالى ونقول بانها بدأت في أكبر الظن مع نوح عليه الصلاة والسلام. ودور الامام يندمج مع دور النبوة ولكنه يمتد حتى بعد النبي اذا ترك النبي الساحة وبعد لاتزال المعركة قائمة ولا تزال الرسالة بحاجة الى مواصلة هذه المعركة من اجل القضاء على تلك الآلهة حينئذ يمتد دور الامامة بعد انتهاء النبي. هذا هو الشرط الرابع في تبني المسيرة التاريخية لهذا المثل الاعلى.

على هذا الضوء سوف نكون رؤية واضحة لما نسميه الأصول الخمسة ، سوف تقع أصول الدين الخمسة في موقعها الطبيعي الصحيح السليم من مسار الانسان ، أصول الدين الخمسة.

التوحيد : هو الذي يعطي الرؤية الواضحة فكريا وايديولوجيا ، هو الذي يجمع ويعبئ كل الطموحات وكل الغايات في مثل اعلى واحد وهو الله سبحانه وتعالى.

العدل : هو جانب من التوحيد ولكن انما فصل العدل صفة من صفات الله سبحانه وتعالى حال العدل ، حال العليم ، حال القدرة ، لا يوجد ميزة عقائدية في العدل في مقابل العلم ، في مقابل القدرة ولكن الميزة هنا ميزة اجتماعية ، ميزة القدوة. لأن العدل هو الصفة التي تعطي للمسيرة الاجتماعية وتغنيها والتي تكون المسيرة الاجتماعية بحاجة اليها اكثر من أي صفة أخرى ، أبرز العدل هنا كأصل ثاني من اصول الدين باعتبار المدلول التوجهي ، باعتبار المدلول التربوي لهذه الصفة ، قلنا بان صفات الله واخلاق الله علمنا الاسلام بان لا نتعامل معها كحقائق عينية ميتافيزقية فوقنا لا صلة لنا بها وإنما نتعامل معها كمؤشرات وكمنارات على الطريق اذن من هنا كان العدل له مدلوله الاكبر بالنسبة الى توجيه المسيرة البشرية ولاجل ذلك أفرز. وان العدل في الحقيقة هو داخل في اطار التوحيد العام ، في اطار المثل الاعلى.


 النبوة : النبوة هي التي توفر الصلة الموضوعية بين الانسان وبين المثل الاعلى. المسيرة البشرية كما قلنا حينما تبنت المثل الاعلى الحق المنفصل عنها الذي ليس من افرازها ومن انتاجها المنخفض كانت بحاجة الى صلة موضوعية. هذه الصلة الموضوعية يجسدها النبي (ص) ، النبي على مر التاريخ ، الانبياء عليهم الصلاة والسلام هم الذين يجسدون هذه الصلة الموضوعية.

الإمامة : الامامة هي في الحقيقة تلك القيادة التي تندمج مع دور النبوة ، النبي هو امام ايضا ، النبي نبي والنبي امام ولكن الامامة لا تنتهي بانتهاء النبي اذا كانت المعركة قائمة واذا ما كانت الرسالة لا تزال بحاجة الى قائد يواصل المعركة. اذن سوف يستمر هذا الجانب من دور النبي خلال الامامة. فالامامة هو الاصل الرابع من اصول الدين.

 الإيمان بيوم القيامة : هو الذي يوفر الشرط الثاني من الشروط الاربعة التي تقدمت ، هو الذين يعطي تلك الطاقة الروحية ، ذلك الوقود الرباني الذي يجدد دائما ارادة الانسان وقدرة الانسان ويوفر الشعور بالمسؤولية والضمانات الموضوعية. اذن اصول الدين في الحقيقة وبالتعبير التحليلي على ضوء ما ذكرناه هي كلها عناصر تساهم في تركيب هذا المثل الاعلى وفي اعطاء تلك العلاقة الاجتماعية بصفتها التاريخية ، بصفتها القرآنية الرباعية التي تحدثنا عنها في الدروس الماضية ، تحدثنا بان القرآن الكريم طرح العلاقة الاجتماعية ذات اربعة ابعاد لا ذات ثلاثة ابعاد ، طرحها بصيغة الاستخلاف وشرحنا في ما سبق صيغة الاستخلاف وقلنا بان الاستخلاف يفترض اربعة ابعاد ، يفترض انسانا وطبيعة والله سبحانه وتعالى وهو المستخلف.

 هذه الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية هي التعبير الاخر عن صيغة تدمج اصول الدين الخمسة في مركب واحد من اجل ان يسير الانسان ويكدح نحو الله سبحانه وتعالى في طريقه الطويل ، بما ذكرناه نوضح دور الانسان في المسرة التاريخية ، نوضح ان الانسان هو مركز الثقل في المسيرة التاريخية. هو مركز الثقل لا بجسمه الفيزيائي وانما بمحتواه الداخلي وهذا المحتوى الداخلي توضح ايضا من خلال ما شرحناه. ان الاساس في بناء هذا المحتوى الداخلي هو المثل الاعلى الذي يتبناه الانسان ، لان المثل الاعلى هو الذي تنبثق منه كل الغايات التفصيلية.

والغايات التفصيلية هي المحركات التاريخية للنشاطات على الساحة التاريخية. اذن المثل الاعلى وتبني المثل الاعلى هو في الحقيقة الاساس في بناء المحتوى الداخلي للانسان ومن هنا ظهر دور هذا البعد الرابع.




 من دروس السيد محمد باقر الصدر "مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق