الاثنين، 31 مارس 2014

مقدمات في التفسير المضوعي ...الدرس الثامن


قلنا بأن توضيح واقع هذه السنة القرآنية في سنن التاريخ يتطلب منا أن نحلل عناصر المجتمع ، ما هي عناصر المجتمع من زاوية نظر القرآن الكريم ، ما هي مقومات المركب الاجتماعي ، كيف يتم التنفيذ بين هذه العناصر والمقومات وضمن أي اطار وأي سنن؟

 هذه الأسئلة نحصل على جوابها في النص القرآني الشريف الذي تحدث عن خلق الانسان الأول

 « وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك » سورة البقرة/30.
حينما نستعرض هذه الآية الكريمة نجد أن الله سبحانه وتعالى ينبأ الملائكة بأنه قرر إنشاء مجتمع على الأرض. فما هي العناصر التي تتحدث عن هذه الحقيقة العظيمة؟ 

هناك ثلاثة عناصر يمكن استخلاصها من العبارة القرآنية :


١ ـ الانسان.

٢ ـ الأرض أو الطبيعة على وجه عام « إني جاعل في الأرض خليفة » 

فهناك أرض أو طبيعة على وجه عام وهناك الانسان الذي يجعله الله سبحانه وتعالى على الأرض.

٣ ـ العلاقة المعنوية التي تربط الانسان بأرض وبالطبيعة وتربط من ناحية أخرى الانسان بأخيه الانسان هذه العلاقة المعنوية التي سماها القرآن الكريم بالاستخلاف.

 ونحن حينما نلاحظ المجتمعات البشرية نجد انها جميعا تشترك بالعنصر الأول والعنصر الثاني ، فلا يوجد مجتمع بدون انسان يعيش مع أخيه الانسان ولا يوجد مجتمع بدون أرض أو طبيعة يمارس الانسان عليها دوره الاجتماعي 

وفي هذين العنصرين تتفق المجتمعات التاريخية والبشرية. واما العنصر الثالث : ففي كل مجتمع علاقة كما ذكرنا ولكن المجتمعات تختلف طبيعة هذه العلاقة وفي كيفية صياغتها.


فالعنصر الثالث هو العنصر المرن والمتحرك من عناصر المجتمع وكل مجتمع يبني هذه العلاقة بشكل قد يتفق وقد يختلف مع طريقة بناء المجتمع الآخر لها. 
وهذه العلاقة لها صيغتان أحدهما صيغة رباعية وقد اطلق عليها اسم
 « الصيغة الرباعية»  والأخرى صيغة ثلاثية.

الصيغة الرباعية : هي الصيغة التي ترتبط بموجبها الطبيعة والانسان مع الانسان ، هذه اطراف ثلاثة فالعلاقة اذن اتخذت صيغة تربط بموجبها بين هذه الاطراف وهي الطبيعة والانسان مع أخيه الانسان.

 ولكن مع افتراض طرف رابع أيضا ، الصيغة الرباعية تربط بين هذه وهذا الطرف الرابع ليس داخلا في اطار المجتمع وانما خارج عن اطاره. ولكن الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية تعتبر هذا الطرف الرابع مقوما من المقومات الاساسية للعلاقة الاجتماعية على رغم خروجه خارج اطار المجتمع ، وهذه الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية ذات الابعاد الاربعة هي التي طرحها القرآن الكريم تحت اسم الاستخلاف.

الاستخلاف اذن هو العلاقة الاجتماعية من زاوية نظر القرآن الكريم وعند تحليل الاستخلاف نجد انه ذو اربعة اطراف لانه يفترض مستخلفا ايضا. لا بد من مستخلَف ومستخلف عليه ، ومستخلِف

فهناك إضافة إلى الانسان وأخيه الانسان والطبيعة يوجد طرف رابع في طبيعة وتكوين علاقة الاستخلاف وهو المستخلِف اذ لا استخلاف بدون مستخلِف ، فالمستخلِف هو الله سبحانه وتعالى والمستخلَف هو الانسان وأخوه الانسان ، أي الانسانية ككل الجماعة البشرية والمستخلف عليه هو الارض وما عليها ومن عليها.

فالعلاقة الاجتماعية ضمن صيغة الاستخلاف تكون ذات أطراف أربعة وهذه الصيغة تنطبق بوجهة نظر معينة نحو الحياة والكون بوجهة نظر قائلة بأنه لا سيد ولا إله للكون وللحياة إلا الله سبحانه وتعالى وأن دور الانسان في ممارسة حياته إنما هو دور الاستخلاف والاستئمام وأي علاقة تنشأ بين الانسان والطبيعة فهي في جوهرها ليست علاقة مالك بمملوك وانما هي علاقة امين على امانة استؤمن عليها وأي علاقة تنشأ بين الانسان واخيه الانسان مهما كان المركز الاجماعي لهذا او لذاك فهي علاقة استخلاف وتفاعل بقدر ما يكون هذا الانسان مؤديا لواجبه بهذه الخلافة وليس علاقة سيادة أو الوهية او مالكية.

 هذه الصيغة الاجتماعية الرباعية الاطراف التي صاغها القرآن الكريم تحت اسم الاستخلاف ترتبط بوجهة النظر المعينة للحياة والكون.

في مقابلها يوجد للعلاقة الاجتماعية صيغة ثلاثية الاطراف ، صيغة تربط بين الانسان والانسان والطبيعة ولكنها تقطع صلة هذه الاطراف مع الطرف الرابع ، تجرد تركيب العلاقة الاجتماعية عن البعد الرابع ، عن الله سبحانه وتعالى. وبهذا تتحول نظرة كل جزء الى الجزء الاخر داخل هذا التركيب وداخل هذه الصيغة.

وجدت الالوان المختلفة للملكية والسيادة ، سيادة الانسان على أخيه الانسان باشكالها المختلفة التي استعرضها التاريخ بعد ان عطل البعد الرابع وبعد ان افترض ان البداية هي الانسان ، حينئذ تنوعت على مسرح الصيغة الثلاثية اشكال الملكية واشكال السيادة ، سيادة الانسان على اخيه الانسان.

وبالتدقيق في المقارنة بين الصيغتين ، الصيغة الرباعية والصيغة الثلاثية يتضح ان اضافة الطرف الرابع للصيغة الرباعية ليس مجرد اضافة عددية ، ليس مجرد طرف جديد يضاف الى الاطراف الاخرى بل ان هذه الاضافة تحدث تغييرا نوعيا في بنية العلاقة الاجتماعية وفي تركيب الاطراف الثلاثة الاخرى نفسها.

 ليس هذا مجرد عملية جمع ثلاثة زائد واحد ، بل هذا الواحد الذي يضاف الى الثلاثة سوف يعطي للثلاثة روحا أخرى ومفهوما آخر ، سوف يحدث تغييرا اساسيا في كنية هذه العلاقة ذات الاطراف الاربعة كما رأينا، إذ يعود الانسان مع اخيه الانسان مجرد شركاء في محل هذه الامانة والاستخلاف وتعود الطبيعة بكل ما فيها من ثروات وبكل ما عليها ومن عليها مجرد امانة لابدّ من رعاية واجبها واداء حقها.


هذا الطرف الرابع هو في الحقيقة مغير نوعي لتركيب العلاقة.

إذاََ أمامنا للعلاقة الاجتماعية صيغتان صيغة رباعية وصيغة ثلاثية والقرآن الكريم آمن بالصيغة الرباعية كما رأينا في الآية الكريمة ، الاستخلاف هو الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية لكن القرآن الكريم اكثر من أنه آمن بالصيغة الرباعية في المقام أعتبر الصيغة الرباعية سنة من سنن التاريخ كما رأينا في الآية السابقة كيف اعتبر الدين سنة من سنن التاريخ كذلك اعتبر الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية التي هي صيغة الدين في الحياة. اعتبر هذه العلاقة بصيغتها الرباعية سنة من سنن التاريخ. كيف؟

هذه الصيغة الرباعية عرضها القرآن الكريم على نحوين :

عرضها تارة بوصفها فاعلية ربانية من زاوية دور الله سبحانه وتعالى في العطاء. وهذا هو العرض الذي قرأناه « إني جاعل في الارض خليفة».

هذه العلاقة الرباعية معروضة في هذا النص الشريف باعتبارها عطاءا من الله ، جعلا من الله يمثل الدور الايجابي والتكريمي من رب العالمين للانسان .


وعرض الصيغة الرباعية نفسها من زاوية أخرى. عرضها بوصفها وبنحو ارتباطها مع الانسان بما هي أمر يتقبله الانسان. عرضها من زاوية تقبل الانسان لهذه الخلافة وذلك في قوله سبحانه وتعالى
 « إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا » سورة الأحزاب/72

الأمانة هي الوجه التقبلي للخلافة ، الخلافة هي الوجه الفاعلي والعطائي للامانة ، الامانة والخلافة عبارة عن الاستخلاف والاستئمان وتحمل الاعباء

عبارة عن الصيغة الرباعية وهذه تارة نلحظها من زاوية ربطها بالفاعل وهو الله سبحانه وتعالى بقوله « إني جاعل في الأرض خليفة » وأخرى نلحظها من زاوية القابل كما يقول الفلاسفة ، من ناحية دور الانسان في تقبل هذه الخلافة وتحمل هذه الامانة وذلك بقوله تعالى « وعرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال ... » وهذه الامانة التي تقبلها الانسان وتحملها حينما عرضت عليه بعض هذه الآية الكريمة ،


هذه الامانة أو هذه الخلافة أو بالتفسير الذي قلناه هذه العلاقة الاجتماعية بصيغتها الرباعية. لم تعرض على الانسان بوصفها تكليفا أو طلبا ليس المقصود من عرضها على الانسان هو العرض على مستوى التكليف والطلب وليس المقصود من تقبل هذه الامانة هو تقبل هذه الخلافة على مستوى الامتثال والطاعة ، ليس المفروض ان يكون هكذا العرض وان يكون هكذا التقبل بقرينة ان هذا العرض كان معروضا على الجبال ايضا ، على السماوات والارض ايضا.

فمن الواضح أنه لا معنى لتكليف السماوات والجبال والارض. نعرف من ذلك أن هذا العرض ليس عرض تشريعي ، هذا العرض معناه أن هذه العطية الربانية كانت تفتش عن الموضع المنسجم معها بطبيعته ، بفطرته ، بتركيبه التاريخي والكوني ، الجبال لا تنسجم مع هذه الخلافة ، السماوات والارض لا تنسجم مع هذه العلاقة الاجتماعية الرباعية. الانسان هو الكائن الوحيد الذي بحكم تركيبه وبحكم بنيته وبحكم فطرة الله التي قرأناها في الآية السابقة كان منسجما مع هذه العلاقة الاجتماعية ذات الاطراف الاربعة والتي تصبح أمانة وخلافة.

إذاََ العرض هنا عرض تكويني والقبول هنا قبول تكويني وهو معنى سنة التاريخ يعني ان هذه العلاقة الاجتماعية ذات الاطراف الاربعة داخلة في تكوينة الانسان وفي تركيب مسار الانسان الطبيعي والتاريخي.


 ونلاحظ أنه في هذه الآية الكريمة ايضا جاءت الاشارة إلى هذه السنة التاريخية وأنها سنة من الشكل الثالث. سنة تقبل التحدي وتقبل العصيان. ليست من تلك السنن التي لا تقبل التحدي ابدا ولو للحظة ، لا .. هي سنة فطرة ولكن هذه الفطرة تقبل التحدي.


كيف أشار القرآن الكريم الى ذلك بعد أن أوضح أنها سنة من سنن التاريخ؟

 قال : « وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا » هذه العبارة الأخيرة « إنه كان ظلوما جهولا » تأكيد على طابع هذه السنة وأن هذه السنة على الرغم من انها سنة من سنن التاريخ ولكنها سنة تقبل التحدي ، تقبل أن يقف الانسان منها موقفا سلبيا. 

هذا التعبير يوازي تعبير « ولكن اكثر الناس لا يعلمون » في الآية السابقة 


إذاََ الآية السابقة استخلصنا منها أن الدين سنة من سنن الحياة ومن سنن التاريخ ومن هذه الآية نستخلص أن صيغة الدين للحياة التي هي عبارة عن العلاقة الاجتماعية الرباعية ، العلاقة الاجتماعية ذات الاطراف الاربعة التي يسميها القرآن بالخلافة والامانة والاستخلاف ، هذه العلاقة الاجتماعية هي ايضا بدورها سنة من سنن التاريخ بحسب مفهوم القرآن الكريم.

فالحقيقة ان الآية الاولى والآية الثانية متطابقتان تماما في مفادهما لانه في الآية الاولى قال

 « فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم » سورة الروم/30

 التعبير بالدين القيم تأكيد على أن ما هو الفطرة وما هو داخل في تكوين الانسان وتركيبه وفي مسار تاريخه هو الدين القيم يعني ان يكون هذا الدين قيما على الحياة ان يكون مهيمنا على الحياة ، هذه القيمومة في الدين هي التعبير المجمل في تلك الآية عن العلاقة الاجتماعية الرباعية التي طرحت في الآيتين ، في آية « إني جاعل في الأرض خليفة » وآية « إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض » فالدين سنة الحياة والتاريخ ، الدين يدخل فيها بعداً رابعا لكي يحدث تغييرا في كنية هذه العلاقة لا لكي تكون مجرد اضافة عددية.


هذه مفاهيم القرآن الكريم مستخلصة من هذه الآيات عن هذه السنة ، اما كيف نريد ان نتعرف بصورة اوضح وأوسع عن هذه السنة ، عن دور التاريخ كسنة ، عن دور الدين القيم ودور الخلافة والامانة ، عن دور العلاقة الاجتماعية ذات الاطراف الاربعة ، دور الطرف الرابع. ما هو دوره كسنة من سنن التاريخ ، وكيف كان سنة من سنن التاريخ؟ ، وكيف كان مقوما اساسيا لمسار الانسان على الساحة التاريخية؟ 

لكي نتعرف على ذلك لا بد من ان نتعرف على الركنين الثابتين في العلاقة الاجتماعية.

 هناك ركنان ثابتان في العلاقة الاجتماعية أحدهما الانسان وأخوه الانسان والآخر الطبيعة ، الكون والأرض. هذان الركنان داخلان في الصيغة الثلاثية وداخلان في الصيغة الرباعية ، ومن هنا نسميهما بالركنين الثابتين في العلاقة الاجتماعية لكي نعرف دور الركن الجديد ودور هذا الركن الجديد ، دور هذا الطرف الرابع ، دور الله سبحانه وتعالى في تركيب العلاقة الاجتماعية ، يجب ان نعرف مقدمة لذلك دور الركنين الثابتين.


ما هو دور الانسان في عملية التاريخ من زاوية النظرة القرآنية ، من زاوية النظرة للقرآن والفهم الرباني من القرآن للتاريخ وسنن الحياة؟

ما هو دور الانسان في العلاقة الاجتماعية؟

وما هو دور الطبيعة في العلاقة الاجتماعية؟

على ضوء تشخيص هذين الدورين وتحديد هذين الموقفين ، سوف يتضح حينئذ دور هذا الطرف الجديد ، دور الطرف الرابع الذي تتميز به الصيغة الرباعية عن الصيغة الثلاثية. ويتضح ان هذا الطرف الرابع عنصر ضروري بحكم سنة التاريخ وتركيب خلقة الانسان ولابدّ وان يندمج مع الاطراف الاخرى لتكوين علاقة اجتماعية رباعية الاطراف.

إذاََ ففهم هذه السنة التاريخية يتطلب منا ان نتحدث عن دور الانسان والطبيعة في عملية التاريخ من زاوية نظر القرآن الكريم وهذا ما سيأتي انشاء الله.

من دروس السيد محمد باقر الصدر "مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن"



الثلاثاء، 25 مارس 2014

مقدمات في التفسير المضوعي ...الدرس السابع


آن الاوان لكي نتعرف على الصيغ المتنوعة التي تتخذها السنة التاريخية القرآنية.


كيف يتم التعبير موضوعيا عن القانون التاريخي في القرآن الكريم؟


ما هي الأشكال التي تتخذها سنن التاريخ في مفهوم القرآن الكريم؟


هناك ثلاثة أشكال تتخذها السنة التاريخية في القرآن الكريم ، لا بد من استعراضها ومقارنتها والتدقيق في أوجه الفرق بينها.



القضية الشرطية

الشكل الاول للسنة التاريخية هو شكل القضية الشرطية، في هذا الشكل تتمثل السنة التاريخية في قضية شرطية تربط بين حادثتين أو مجموعتين من الحوادث على الساحة التاريخية وتؤكد العلاقة الموضوعية بين الشرط والجزاء ، وأنه متى ما تحقق الشرط تحقق الجزاء وهذه صياغة نجدها في كثير من القوانين والسنن الطبيعية والكونية في مختلف الساحات الاخرى.


فمثلا : حينما نتحدث عن قانون طبيعي لغليان الماء ، نتحدث بلغة القضية الشرطية ، نقول بأن الماء اذا تعرض الى الحرارة وبلغت الحرارة درجة معينة مائة مثلا في مستوى معين من الضغط ، حينئذ سوف يحدث الغليان هذا قانون طبيعي يربط بين الشرط والجزاء ويؤكد ان حالة التعرض الى الحرارة ، ضمن مواصفات معينة تذكر في طرف الشرط تستتبع حادثة طبيعية معينة ، وهي غليان هذا الماء « تحول هذا الماء من سائل الى غاز »


هذا القانون مصاغ على نهج القضية الشرطية ومن الواضح أن هذا القانون الطبيعي لا ينبئنا شيئاً عن تحقق الشرط وعدم تحققه ، لا ينبئنا هذا القانون الطبيعي عن ان الماء سوف يتعرض للحرارة او لا يتعرض للحرارة هل ان درجة حرارة الماء ترتفع الى الدرجة المطلوبة ضمن هذا القانون او لا ترتفع؟ هذا القانون لا يتعرض الى مدى وجود الشرط وعدم وجوده ، ولا ينبئنا بشيء عن تحقق الشرط ايجابا او سلبا ، وانما ينبئنا عن ان الجزاء لا ينفك عن الشرط ، فمتى ما وجد الشرط وجد الجزاء.


 فالغليان نتيجة مرتبطة موضوعيا بالشرط هذا هو تمام ما ينبئنا عنه هذا القانون المصاغ بلغة القضية الشرطية.


 ومثل هذه القوانين تقدم خدمة كبيرة للإنسان في حياته الاعتيادية وتلعب دورا عظيما في توجيه الانسان، لأن الانسان ضمن تعرفه على هذه القوانين يصبح بإمكانه أن يتصرف بالنسبة إلى الجزاء، ففي كل حالة يكون الجزاء متعارضا مع مصالحه ومشاعره يحاول الحيلولة دون توفر شروط هذا القانون.

متى ما كان غليان الماء مقصودا للانسان يطبق شروط هذا القانون ومتى لم يكن مقصودا للانسان يحاول ان لا تتطبق شروط هذا القانون.


إذن القانون الموضوعي بنهج القضية الشرطية موجه عملي للإنسان في حياته ومن هنا تتجلى حكمة الله سبحانه وتعالى في صياغة نظام الكون على مستوى القوانين وعلى مستوى الروابط المضطردة والسنن الثابتة لان صياغة الكون ضمن روابط مضطردة وعلاقات ثابتة هو الذي يجعل الانسان يتعرف على موضع قدميه وعلى الوسائل التي يجب ان يسلكها في سبيل تكييف بيئته وحياته والوصول الى اشباع حاجته.


لو أن الغليان في الماء كان يحدث صدفة ومن دون رابطة قانونية مضطردة مع حادثة أخرى كالحرارة ، إذن لما استطاع الانسان ان يتحكم في هذه الظاهرة ، أن يخلق هذه الظاهرة متى ما كانت حياته بحاجة إليها وأن يتفاداها متى ما كانت حياته بحاجة الى تفاديها،

 إنما كان له هذه القدرة باعتبار أن هذه الظاهرة وضعت في موضع ثابت من سنن الكون وطرح على الانسان القانون الطبيعي من لغة القضية الشرطية فأصبح ينظر في نور لا في ظلام ويستطيع في ضوء هذا القانون الطبيعي أن يتصرف، نفس الشيء نجده في الشكل الاول من السنن التاريخية القرآنية فإن عددا كبيرا من السنن التاريخية في القرآن قد نمت صياغته على شكل القضية الشرطية التي تربط ما بين حادثتين اجتماعيتين او تاريخيتين فهي لا تتحدث عن الحادثة الاولى « انها متى توجد ، ومتى لا توجد » لكن تتحدث عن الحادثة الثانية بأنه « متى ما وجدت الحادثة الاولى ، وجدت الحادثة الثانية ».




قرأنا في ما سبق استعراضا للآيات الكريمة التي تدل على سنن التاريخ في القرآن جملة من تلك الآيات الكريمة مفادها هو السنة التاريخية بلغة القضية الشرطية ، تتذكرون ما قرأناه سابقا « إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » سورة الرعدم11

هذه السنة التاريخية للقرآن والتي تقدم الكلام عنها ويأتي إن شاء الله الحديث عن شرح محتواها، هذه السنة التاريخية للقرآن بينت بلغة القضية الشرطية لأن مرجع هذا المفاد القرآني الى أن هناك علاقة بين تغييرين ، بين تغيير المحتوى الداخلي للانسان وتغيير الوضع الظاهري للبشرية والانسانية ، مفاد هذه العلاقة قضية شرطية ، انه متى ما وجد ذاك التغيير في انفس القوم وجد هذا التغيير في بناء القوم وكيان القوم، هذه القضية قضية شرطية بين القانون فيها بلغة القضية الشرطية.


 « وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءا غدقا » سورة الجن/16

قلنا في ما سبق أن هذه الآية الكريمة تتحدث عن سنة من سنن التاريخ ، عن سنة تربط وفرة الانتاج بعدالة التوزيع هذه السنة ايضا هي بلغة القضية الشرطية كما هو الواضح من صياغتها النحوية ايضا.


 « واذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدمير » (سورة الإسراء/16).

 أيضا سنة تاريخية بينت بلغة القضية الشرطية ربطت بين امرين ، بين تأمير الفساق والمترفين في المجتمع وبين دمار ذلك المجتمع وانحلاله، هذا القانون التاريخي ايضا مبين على نهج القضية الشرطية ، فهو لا يبين أنه متى وجد الشرط ، لكن يبين متى ما وجد هذا الشرط يوجد الجزاء ، هذا هو الشكل الاول من أشكال السنة التاريخية في القرآن.



القضية الفعلية الناجزة الوجودية المحققة

الشكل الثاني الذي تتخذه السنن التاريخية شكل القضية الفعلية الناجزة الوجودية المحققة وهذا الشكل أيضا نجد له أمثلة وشواهد في القوانين الطبيعية والكونية. 


مثلاً : العالم الفلكي حينما يصدر حكما علميا على ضوء قوانين مسارات الفلك بأن الشمس سوف تنكسف في اليوم الفلاني ، أو أن القمر سوف ينخسف في اليوم الفلاني هذا قانون علمي وقضية علمية ، الا أنها قضية وجودية ناجزة ، وليست قضية شرطية ، لا يملك الانسان اتجاه هذه القضية أن يغير من ظروفها وأن يعدل من شروطها، لأنها لم تبين كلغة قضية شرطية ، وإنما بينت على مستوى القضية الفعلية الوجودية ، الشمس سوف تنكسف ، القمر سوف ينخسف ، هذه قضية فعلية تنظر الى الزمان الآتي وتخبر عن وقوع هذه الحادثة على أي حال، وكذلك القرارات العلمية التي تصدر عن الأنواء الجوية، المطر ينهمر على المنطقة الفلانية ، هذا أيضا يعبر عن قضية فعلية وجودية لم تصغ بلغة القضية الشرطية وانما صيغت بلغة التنجيز والتحقيق بلحاظ زمان معين ومكان معين ، هذا هو الشكل الثاني من السنن التاريخية وسوف اذكر فيما بعد ان شاء الله عند تحليل عناصر المجتمع الى أمثلة هذا الشكل من القرآن الكريم.


هذا الشكل من السنن التاريخية هو الذي أوحى في الفكر الاوروبي بتوهم التعارض بين فكرة سنن التاريخ وفكرة اختيار الانسان وإرادته، نشأ هذا التوهم الخاطيء الذي يقول بأن فكرة سنن التاريخ لا يمكن أن تجتمع الى جانب فكرة اختيار الانسان لأن سنن التاريخ هي التي تنظم مسار الانسان وحياة الانسان اذن ماذا يبقى لارادة الانسان؟

هذا التوهم أدى الى أن بعض المفكرين يذهب الى ان الانسان له دور سلبي فقط حفاظا على سنن التاريخ وعلى موضوعية هذه السنن ، ضحى باختيار الانسان من أجل الحفاظ على سنن التاريخ فقال بأن الانسان دوره دور سلبي وليس دورا ايجابيا ، يتحرك كما تتحرك الالة وفقا لظروفها الموضوعية ، ولعله يأتي بعض التفصيل أيضا عن هذه الفكرة،

وذهب بعض آخر في مقام التوفيق ما بين هاتين الفكرتين ولو ظاهريا الى أن اختيار الانسان نفسه هو ايضا يخضع لسنن التاريخ ولقوانين التاريخ ، لا نضحي باختيار الانسان، لكن نقول بان اختيار الانسان لنفسه حادثة تاريخية ايضا ، اذن هو بدوره يخضع للسنن هذه تضحية باختيار الانسان لكن بصورة مبطنة ، بصورة غير مكشوفة،

وذهب بعض آخر الى التضحية بسنن التاريخ لحساب اختيار الانسان فذهب جملة من المفكرين الاوروبيين الى أنه ما دام الانسان مختارا فلابدّ من أن تستثنى الساحة التاريخية من الساحات الكونية في مقام التقنين الموضوعي ، لا بد وان يقال بأنه لا سنن موضوعية للساحة التاريخية حفاظا على ارادة الانسان وعلى اختيار الانسان.


 وهذه المواقف كلها خاطئة لانها جميعا تقوم على ذلك الوهم الخاطئ ، وهم الاعتقاد بوجود تناقض أساسي بين مقولة السنة التاريخية ومقولة الاختيار ، وهذا التوهم نشأ من قصر النظر على الشكل الثاني من اشكال السنة التاريخية أي قصر النظر على السنة التاريخية المصاغة بلغة القضية الفعلية الوجودية الناجزة.

لو كنا نقصر النظر على هذا الشكل من سنن التاريخ ولو كنا نقول بأن هذا الشكل هو الذي يستوعب كل الساحة التاريخية لا يبقي فراغا لذي فراغ لكان هذا التوهم واردا ، ولكنا يمكننا ابطال هذا التوهم عن طريق الالتفات الى الشكل الاول من اشكال السنة التاريخية الذي تصاغ فيه السنة التاريخية بوصفها قضية شرطية ، وكثيرا ما تكون هذه القضية الشرطية في شروطها معبرة عن ارادة الانسان واختياره، يعني ان اختيار الانسان يمثل محور القضية الشرطية « شرط القضية الشرطية »

اذن فالقضية الشرطية كامثلة التي ذكرناها من القرآن الكريم تتحدث عن علاقة بين الشرط والجزاء ، لكن ما هو الشرط؟


الشرط : هو فعل الانسان ، هو ارادة الانسان « إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم »، التغيير هنا أسند إليهم فهو فعلهم ، ابداعهم وارادتهم
.


اذن السنة التاريخية حينما تصاغ بلغة القضية الشرطية وحينما يمثل ابداع الانسان واختياره موضوع الشرط في هذه القضية الشرطية ، في مثل هذه الحالة تصبح هذه السنة متلائمة تماما مع اختيار الانسان بل أن السنة حينئذ تقضي اختيار الانسان ، تزيده اختيارا وقدرة وتمكنا من التصرف في موقفه ، كيف أن ذلك القانون الطبيعي للغليان كان يزيد من قدرة الانسان لانه يستطيع حينئذ ان يتحكم في الغليان بعد أن عرف شروطه وظروفه ، كذلك السنن التاريخية ذات الصيغ الشرطية ، هي في الحقيقة ليست على حساب ارادة الانسان وليست نقيضا لاختيار الانسان بل هي مؤكدة لاختيار الانسان وتوضح للانسان نتائج ، لكي يستطيع أن يقتبس ما يريده من هذه النتائج ، لكي يستطيع أن يتعرف على الطريق الذي يسلك به الى هذه النتيجة أو إلى تلك النتيجة فيسير على ضوء وكتاب منير هذا هو الشكل الثاني للسنة التاريخية.



الشكل الثالث للسنة التاريخية وهو شكل اهتم به القرآن الكريم اهتماما كبيرا ، هو السنة التاريخية المصاغة على صورة اتجاه طبيعي في حركة التاريخ لا على صورة قانون صارم حدي

وفرق بين الاتجاه والقانون ولكي تتضح الفكرة في ذلك لا بد أن نطرح الفكرة الإعتيادية التي نعيشها في أذهاننا عن القانون ، القانون العلمي كما نتصوره عادة عبارة عن تلك السنة التي لا تقبل التحدي من قبل الانسان ، لانها قانون من قوانين الكون والطبيعة فلا يمكن للانسان ان يتحداها ، أن ينقضها ، أن يخرج عن طاعتها ، يمكنه ان لا يصلي لان وجوب الصلاة حكم تشريعي وليس قانونا تكوينيا ، يمكنه أن يشرب الخمر لان حرمة الخمر قانون تشريعي وليس قانونا تكوينيا ، لكنه لا يمكنه ان يتحدى القوانين الكونية والسنن الموضوعية ، مثلا لا يمكنه أن يجعل الماء لا يغلي اذا توفرت شروط الغليان ، لا يمكنه أن يتحدى الغليان وان يؤخر الغليان لحظة عن موعده المعين لأن هذا قانون والقانون صارم والصرامة تأبى التحدي. 


هذه هي الفكرة التي نتصورها عادة عن القوانين وهي فكرة صحيحة الى حد ما ، لكن ليس من الضروري ان تكون كل سنة طبيعية موضوعية على هذا الشكل بحيث تأبى التحدي ولا يمكن تحديها من قبل الانسان بهذه الطريقة بل هناك اتجاهات موضوعية في حركة التاريخ وفي مسار الانسان الا ان هذه الاتجاهات لها شيء من المرونة بحيث انها تقبل التحدي ولو على شوط قصير ، وان لم تقبل التحدي على شوط طويل ، لكن على الشوط القصير تقبل التحدي أنت لا تستطيع أن تؤخر موعد غليان الماء لحظة ، لكن تستطيع أن تجمد هذه الاتجاهات لحظات من عمر التاريخ لكن هذا لا يعني أنها ليست اتجاهات تمثل واقعا موضوعيا في حركة التاريخ ، هي اتجاهات ولكنها مرنة تقبل التحدي لكنها تحطم المتحدي تحطمه بسنن التاريخ نفسها.


ومن هنا كانت اتجاهات : هناك اشياء يمكن تحديها دون ان يتحطم المتحدي ، لكن هناك اشياء يمكن أن تتحدى على شوط قصير ولكن المتحدي يتحطم على سنن التاريخ نفسها، هذه هي طبيعة الاتجاهات الموضوعية في حركة التاريخ.


لكي أقرب الفكرة اليكم نستطيع أن نقول بأن هناك اتجاها في تركيب الانسان وفي تكوين الانسان اتجاها موضوعيا لا تشريعيا الى اقامة العلاقات المعينة بين الذكر والانثى في مجتمع الانسان ضمن اطار من أطر النكاح والاتصال ، هذا الاتجاه ليس تشريعيا ليس تقنينا اعتباريا وإنما هو اتجاه موضوعي أعملت العناية في سبيل تكوينه في مسار حركة الانسان، لا نستطيع أن نقول أن هذا مجرد قانون تشريعي، مجرد حكم شرعي، لا وانما هذا اتجاه ركب في طبيعة الانسان وفي تركيب الانسان وهو الاتجاه الى الاتصال بين الذكر والانثى وادامة النوع عن طريق هذا الاتصال ضمن اطار من أطر النكاح الاجتماعي.


هذه سنة لكنها سنة على مستوى الاتجاه ، لا على مستوى القانون .. لماذا؟ لان التحدي لهذه السنة لحظة او لحظات ممكن ، أمكن لقوم لوط أن يتحدوا هذه السنة فترة من الزمن بينما لم يكن بامكانهم ان يتحدوا سنة الغليان بشكل من الاشكال ، الا ان تحدي هذه السنة يؤدي الى أن يتحطم الانسان.


 المجتمع الذي يتحدى هذه السنة يكتب بنفسه فناء نفسه لانه يتحدى ذلك عن طريق ألوان اخرى من الشذوذ تؤدي إلى فناء المجتمع وإلى خراب المجتمع ومن هنا كان هذا اتجاها موضوعيا يقبل التحدي على شوط قصير ، لكن لا يقبل التحدي على شوط طويل لانه سوف يحطم المتحدي بنفسه.


الاتجاه الى توزيع الميادين بين المرأة والرجل هذا الاتجاه اتجاه موضوعي وليس اتجاها ناشئا من قرار تشريعي ، اتجاه ركب في طبيعة الرجل والمرأة ، ولكن هذا الاتجاه يمكن ان يتحدى ، يمكن استصدار تشريع يفرض على الرجل بأن يبقى في البيت ليتولى دور الحضانة والتربية وان تخرج المرأة الى الخارج لكي تتولى مشاق العمل والجهد ، هذا بالامكان ان يتحقق عن طريق تشريع معين وبهذا يحصل التحدي لهذا الاتجاه لكن هذا التحدي سوف لن يستمر لان سنن التاريخ سوف تجيب على هذا التحدي لاننا بهذا سوف نخسر ونجمد كل تلك القابليات التي زودت بها المرأة من قبل هذا الاتجاه لممارسة دور الحضانة والامومة وسوف نخسر كل تلك القابليات التي زود بها الرجل من اجل ممارسة دور يتوقف على الجلد والصبر والثبات وطول النفس كما أن من قبيل ان تسلم بناية تسلم نجارياتها الى حداد وحدادياتها الى نجار يمكن ان تصنع هكذا ويمكن ان تنشأ البناية أيضا لكن هذه البناية سوف تنهار ، سوف لن يستمر هذا التحدي على شوط طويل سوف يتقطع في شوط قصير.


كل اتجاه من هذا القبيل هو في الحقيقة سنة موضوعية من سنن التاريخ ومن سنن حركة الانسان ولكنها سنة مرنة تقبل التحدي على الشوط القصير ولكنها تجيب على هذا التحدي وأهم مصداق يعرضه القرآن الكريم لهذا الشكل من السنن هو الدين.


 القرآن الكريم يرى أن الدين نفسه سنة من سنن التاريخ ، سنة موضوعية من سنن التاريخ ليس الدين فقط تشريعا وانما هو سنة من سنن التاريخ ولهذا يعرض الدين على شكلين تارة يعرضه بوصفه تشريعا كما يقول علم الاصول ، بوصفه ارادة تشريعية مثلا يقول 

« شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه » سورة الشورى/13.

هنا يبين الدين كتشريع ، كقرار ، كأمر من الله سبحانه وتعالى.


 لكن في مجال آخر يبينه سنة من سنن التاريخ وقانون داخل في صميم تركيب الانسان وفطرة الانسان قال سبحانه وتعالى 

« فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون » سورة النون/30.

هنا الدين لم يعد مجرد قرار وتشريع من أعلى وانما الدين هنا فطرة للناس، فطرة الله التي فطر عليها الناس ولا تبديل لخلق الله.


هذا الكلام كلام موضوعي خبري لا تشريعي إنشائي ، لا تبديل لخلق الله ، وهكذا إنك لا يمكنك أن تنتزع من الانسان أي جزء من أجزاءه التي تقومه ، كذلك لا يمكنك ان تنتزع من الانسان دينه ، الدين ليس مقولة حضارية مكتسبة على مر التاريخ يمكن اعطاؤها ويمكن الاستغناء عنها لانها في حالة من هذا القبيل لا تكون فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا تكون خلق الله الذي لا تبديل له ، بل تكون من المكاسب التي حصل عليها الانسان من خلال تطوراته المدنية والحضارية على مر التاريخ.


القرآن يريد ان يقول بأن الدين ليس مقولة من هذه المقولات بالامكان اخذها وبالامكان عطاؤها ، الدين خلق الله ، فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا تبديل لخلق الله في هذا الكلام « لا » ليست ناهية بل نافية يعني هذا الدين لا يمكن أن ينفك عن خلق الله ما دام الانسان انسانا فالدين يعتبر سنة لهذا الانسان.


هذه سنة ولكنها ليست سنة صارمة على مستوى الغليان ، سنة تقبل التحدي على الشوط القصير كما كان بامكان تحدي سنة النكاح اللقاء الطبيعي والتزواج الطبيعي ، كما كان بالامكان تحدي ذلك عن طريق الشذوذ الجنسي ، لكن على شوط قصير كذلك يمكننا تحدي هذه السنة على شوط قصير عن طريق الالحاد وغمض العين عن هذه الحقيقة الكبرى بأمكان الانسان ان لا يرى الشمس ، أن يغمض عينه عن الشمس ويلحد ولا يرى هذه الحقيقة.


 ولكن هذا التحدي لا يكون الا على شوط قصير لان العقاب سوف ينزل بالملحدين ، العقاب هنا ليس بمعنى العقاب الذي ينزل على من يرتكب مخالفة شرعية على يد ملائكة العذاب في السماء في يوم القيامة ليس هو ذاك العقاب الذي ينزل على من يخالف القانون على يد الشرطي ، يضربه بالعصا على رأسه ، وانما العقاب هنا ينزل من سنن التاريخ نفسها تفرض العقاب على كل أمة تريد أن تبدل خلق الله سبحانه وتعالى ، ولا تبديل لخلق الله « ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون » سورة الحج/٤٧.



نحن نقول بأن السنن التاريخية من الشكل الثالث إذا تحداها الإنسان فسوف يأخذ العقاب من السنن التاريخية، سرعان ما ينزل عليه العقاب من السنن التاريخية نفسها « كلمة سرعان هنا يجب أن تؤخذ بمعنى السرعة التاريخية لا السرعة التي نفهمها في حياتنا الاعتيادية » 

وهذا ما أرادت أن تبينه هذه الآية، تتحدث عن العذاب، واقعه في سياق العذاب الجماعي الذي نزل بالقرى السابقة الظالمة ثم بعد ذلك يتحدث عن استعجال الناس في أيام رسول الله (ص) الناس يستعجلون الرسول (ص) ويقولون له أين هذا العقاب ،أاين هذا العذاب؟ لماذا لا ينزل بنا نحن الآن كفرنا تحديناك لم نؤمن بك ، صممنا آذاننا عن قرآنك لماذا لا ينزل بنا هذا العذاب؟ هنا القرآن يتحدث عن السرعة التاريخية التي تختلف عن السرعة الاعتيادية يقول « ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده»، لأنها سنة ، والسنة التاريخية ثابتة ، لكن « وان يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ».

اليوم الواحد في سنن التاريخ عند ربك باعتبار أن سنن التاريخ هي كلمات الله كما قرأنا في ما سبق ، كلمات الله سنن التاريخ. اذن في كلمات الله. في سنن الله ، اليوم الواحد « المهلة القصيرة » هي ألف سنة.


طبعا في آية أخرى عبر بخمسين ألف سنة ، لكن أريد بذلك أيام القيامة لا يوم الدنيا وهذا هو وجه الجمع بين الآيتين ، الكلمتين. في آية أخرى قيل « تعرج الملائكة والروح اليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فاصبر صبرا جميلا انهم يرونه بعيدا ونراه قريبا يوم تكون السماء كالمهل » سورة المعارج/٤ـ٨.هذا ناظر الى يوم القيامة ، الى يوم تكون السماء كالمهل فيوم القيامة قدر بخمسين ألف سنة.


أما هنا يتكلم عن يوم توقيت نزول العذاب الجماعي وفقا لسنن التاريخ يقول « وان يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون »


إذن فهذا شكل ثالث من السنن التاريخية ، هذا الشكل هو عبارة عن اتجاهات موضوعية من مسار التاريخ وفي حركة الانسان وفي تركيب الانسان ، يمكن ان يتحدى على الشوط القصير ولكن سنن التاريخ لا تقبل التحدي على الشوط الطويل الا أن الشوط القصير والطويل هنا ليس بحسب طموحاتنا ، بحسب حياتنا الاعتيادية يوم أو يومين لان اليوم الواحد في كلمات الله وفي سنن الله كألف سنة مما نحسب ، هذا هو الشكل الثالث.


 الدين هو المثال الرئيسي للشكل الثالث من أجل أن نعرف أن الدين ليس سنة من سنن التاريخ .. ما هو دوره؟ ما هو موقعه؟ لماذا أصبحت سنة من سنن التاريخ ليس مجرد تشريع وانما هو سنة ، يعني حاجة اساسية موضوعية حاله حال قانون الزوجية بين الذكر والانثى هو سنة موضوعية لماذا صار هكذا؟ وكيف صار هكذا؟ وما هو دوره كسنة تاريخية من سنن التاريخ؟

لكي نعرف ذلك يجب أن نأخذ المجتمع ونحلل عناصر المجتمع على ضوء القرآن الكريم لنصل الى مغزى قولنا أن الدين سنة من سنن التاريخ.


كيف نحلل المجتمع؟ نحلل عناصر المجتمع على ضوء هذه الآية الكريمة « واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة ، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، قال اني اعلم ما لا تعلمون » 
سورة البقرة/٣٠.

على ضوء هذه الآية التي تعطينا أروع وأدق وأعمق صيغة لتحليل عناصر المجتمع سوف ندرس هذه العناصر ونقارن ما بينها لنعرف في النهاية أن الدين سنة من سنن التاريخ.


من دروس السيد محمد باقر الصدر "مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن