الأحد، 16 نوفمبر 2014

مقدمات في التفسير الموضوعي ..الدرس الثالث عشر




 قلنا أن خط علاقات الانسان مع الطبيعة مختلف مشكلة وقانونا عن خط علاقات الانسان مع أخيه الانسان ، وذكرنا أن هذين الخطين كل واحد منهما مستقل استقلالا نسبيا عن الخط الاخر لكن هذا الاستقلال النسبي لا ينفي التفاعل والتأثير المتبادل الى حد ما بين هذين الخطين ، فلكل منهما لون من التاثير الطردي أو العكسي على الخط الاخر وهذا التأثير المتبادل بين الخطين يمكن ابرازه ضمن علاقتين قرآنيتين بين هذين الخطين، العلاقة الاولى تبرز مدى تأثير خط علاقات الانسان مع الطبيعة على خط علاقات الانسان مع أخيه الانسان والعلاقة القرآنية الثانية تبرز من الجانب الاخر مدى تأثير علاقات الانسان مع أخيه الانسان على علاقات الانسان مع الطبيعة.
 أما العلاقة الاولى التي تبرز تأثير علاقات الانسان مع الطبيعة على الخط الآخر فمؤدى هذه العلاقة هو أنه كما نمت قدرة الانسان على الطبيعة واتسعت سيطرته عليها وازداد اغتناءا بكنوزها ووسائل انتاجها ، تحققت بذلك امكانية اكبر فاكبر للاستغلال على خط علاقات الانسان مع أخيه الانسان « كلا إن الانسان ليطغى، أن رآه استغنى » (سورة الفلق/6-7) هذه الآية الكريمة تشير الى هذه العلاقة الى أن الانسانية بقدر ما تتمكن وتستقطب الطبيعة وتتوصل الى وسائل انتاج أقوى وأدوات توليد أوسع تكون انعكاسات ذلك على حقل علاقات الانسان مع أخيه الانسان ، انعكاساته على شكل امكانيات واغراءات وفتح الشهية للاقوياء لكي يستثمروا أداة الانتاج في سبيل استغلال الضعفاء.
 تصوروا مجتمعا يعيش على الصيد باليد والحجارة والهراوة ، مثل هذا المجتمع لا يتمكن من أن يمارس بذور الاقوياء ، بذور الوحوش فيه لا يتمكنون على الاغلب من أن يمارسوا أدوارا خطيرة من الاستغلال الاجتماعي لان مستوى الانتاج محدود والقدرة محدودة وكل انسان لا يكسب عادة بعرق جبينه الا قوت يومه فلا توجد امكانية الاستغلال بشكله الاجتماعي الواسع وان كان توجد ألوان اخرى من الاستغلال الفردي ولكن لاحظوا من الجانب الاخر مجتمعا متطورا استطاع الانسان فيه أن يصنع الآلة البخارية والآلة الكهربائية استطاع فيه أن يخضع الطبيعة لارادته في مثل هذا المجتمع سوف تكون الالة البخارية والآلة الكهربائية المعقدة المتطورة الصنع تكون أداة، امكانية على ساحة علاقات الانسان مع اخيه الانسان تشكل بحسب مصطلح الفلاسفة ما بالقوة للاستغلال ويبقى ان يخرج ما بالقوة الى ما بالفعل وذلك على عهدة الانسان ودوره التاريخي على الساحة الاجتماعية ، فالانسان هو الذي يصنع الاستغلال ، هو الذي يفرز النظام الرأسمالي المستغل حينما يجد الآلة البخارية والكهربائية ، ولكن الآلة البخارية والكهربائية هي التي تعطيه امكانية هذا الاستغلال ، هي التي تهيىء له فرصة تفتح شهيته ، توقظ مشاعره ، تحرك جدله الداخلي وتناقضه الداخلي من اجل أن يبرز صيغة تتناسب مع ما يوجد على الساحة من قوى الانتاج ووسائل التوريد ، وهذا هو الفرق بيننا وبين المادية التاريخية ، المادية التاريخية اعتقدت بأن الآلة هي التي تصنع الاستغلال ، هي التي تصنع النظام المتناسب لها ولكننا نحن لا نرى ان دور الآلة هو دور الصانع ، وانما دور الآلة هو دور الامكانية ، دور توفير الفرصة والقابلية وأما الصانع الذي يتصرف ايجابا وسلبا،أمانة وخيانة، صمودا وانهيارا، إنما هو الانسان وفقا لمحتواه الداخلي لمثله الاعلى لمدى التحامة مع هذا المثل الاعلى.هذه هي العلاقة الاولى.

 وأما العلاقة القرآنية الثانية التي تمثل وتجسد تأثير علاقات الانسان مع الطبيعة ، فمؤدى هذه العلاقة القرآنية هو أنه كلما جسدت علاقات الانسان مع اخيه الانسان العدالة وكلما استطاعت ان تستوعب قيم هذه العدالة وان تبتعد عن أي لون من ألوان الظلم والاستغلال من الانسان لاخيه الانسان ، كلما وقع ذلك ازدهرت علاقات الانسان مع الطبيعة وتفتحت الطبيعة عن كنوزها وأعطت المخبوء من ثرواتها ونزلت البركات من السماء وتفجرت الارض بالنعمة والرخاء ، هذه العلاقة القرآنية هي العلاقة التي شرحها القرآن الكريم في نصوص عديدة قال سبحانه وتعالى:
 « وألوا استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءا غدقا » (الجن/16)
 «ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم » (المائدة/66)
 « ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون » (الأعراف/96) 

 هذه العلاقة مؤداها ان علاقات الانسان مع الطبيعة تتناسب عكسيا مع ازدهار العدالة في علاقات الانسان مع اخيه الانسان فكلما ازدهرت العدالة في علاقات الانسان مع اخيه الانسان اكثر فأكثر ازدهرت علاقات الانسان مع الطبيعة ، وكلما أنحسرت العدالة عن الخط الاول انحسر الازدهار عن الخط الثاني ، أي ان مجتمع العدل هو الذي يصنع الازدهار في علاقات الانسان مع الطبيعة ومجتمع الظلم هو الذي يؤدي الى انحسار تلك العلاقات ، علاقات الانسان مع الطبيعة ، وهذه العلاقة ليست ذات محتوى غيبي فقط ، نعم نحن نؤمن أيضا بمحتواها الغيبي ولكن اضافة الى محتواها الغيبي الرباني هي تشكل سنة من سنن التاريخ بحسب مفهوم القرآن الكريم وذلك لان مجتمع الظلم ، مجتمع الفراعنة على مر التاريخ مجتمع ممزق ، مشتت ، الفرعونية على مر التاريخ حينما تتحكم في علاقات الانسان مع اخيه الانسان تستهدف تمزيق طاقات المجتمع ، وتشتيت فئاته ، وبعثرة امكانياته ، ومن الواضح أنه تشتيت وبعثرة وتفتيت وتجزئة من هذا القبيل لا يمكن لافراد المجتمع ان يحشدوا قواهم الحقيقية والسيطرة على الطبيعة وهذا هو الفرق بين المثل العليا المنخفضة الفرعونية وبين المثل الاعلى الحق مثل التوحيد سبحانه وتعالى ، فان المثل الاعلى يوحد الجامعة البشرية ويلغي كل الفوارق والحدود باعتبار شمولية هذا المثل الاعلى باعتبار شموليته فهو يستوعب كل الحدود وكل الفوارق ، يهضم كل الاختلافات ، يصهر البشرية كلها في وحدة متكافئة ، لا يوجد ما يميز بعضها عن بعض ، لا من دم ولا من جنس ولا من قومية ولا من حدود جغرافية أو طبقية.
المثل الاعلى بشموليته يوحد البشرية ولكن المثل العليا المنخفضة تجزيء البشرية وتشتت البشرية انظروا الى المثل الاعلى كيف يقول
 « وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون » (الأنبياء/92) 
 « إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون » (المؤمنون/52) 
هذا هو منطق شمولية المثل الاعلى التي لا تعترف بحد وبحاجز في داخل هذه الاسرة البشرية انظروا ، استمعوا الى المثل المنخفض ، الى مجتمع الظلم وآلهة مجتمع الظلم كيف يقولون ، أو كيف يتحدث عنهم القرآن الكريم « إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا » (القصص/4) 
فرعون المثل الاعلى المنخفض، الفرعونية على مر التاريخ التي تبني العلاقات بين الانسان وأخيه الانسان على أساس الظلم والاستغلال ، الفرعونية تجزيء المجتمع ، تبعثر امكانيات المجتمع ، وطاقات المجتمع ومن هنا تهدر ما في الانسان من قدرة على الابداع والنمو الطبيعي على ساحة علاقات الانسان مع الطبيعة ، وعملية التجزئة الفرعونية للمجتمع تقسم المجتمع الى فصائل وجماعات الجماعة الاولى ظالمون مستضعفون ، هذه الجماعة الاولى في التقسيم الفرعوني هم الظالمون المستضعفون في نفس الوقت الظالمون الثانويون أو بحسب تعبير أئمتنا عليهم الصلاة والسلام «أعوان الظلمة» هؤلاء الظالمون المستضعفون يشكلون حماية لفرعون وللفرعونية وسندا في المجتمع لبقاء الفرعونية واستمرار وجودها واطارها.
 قال الله سبحانه وتعالى « إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول ، يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين » (سبأ/31). هنا القرآن يتحدث عن الظالمين يقول « اذ الظالمون موقوفون »
لكن الظالمين صنفهم الى قسمين : الى من استضعفت منهم ومن استكبر منهم. إذن فالظالمون فيهم مستكبرون وهم الذين يمثلون الفرعونية في المجتمع وفيهم مستضعفون ، فالطائفة الاولى اذن في التجزئة الفرعونية لمجتمع الظلم هم الظالمون المستضعفون هؤلاء الذين يحشرون يوم القيامة في زمرة الظالمين ثم يقولون للمستكبرين من الظالمين لولا انتم لكنا مؤمنين ، هذه هي الطائفة الاولى التي تشكل الحماية والسند للفرعونية.

الطائفة الثانية في عملية التمزقة الفرعونية لمجتمع الظلم ظالمون يشكلون حاشية ومتملقين ، اولئك الذين قد لا يمارسون ظلما بأيديهم بالفعل ولكنهم دائما وابدا على مستوى نزوات فرعون وشهوات فرعون ورغبات فرعون يسبقونه بالقول من أجل ان يصححوا مسلكه ومسيرته. قال الله سبحانه وتعالى « وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ، قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون » (الرعد/127) ، شكلوا دور الاثارة لفرعون ، هؤلاء كانوا يعرفون انهم بهذا الكلام يضربون على الوتر الحساس في قلب فرعون ، وان فرعون كان بحاجة الى كلام من هذا القبيل ، فتسابقوا الى هذا الكلام لكي يجعلوا فرعون يعبر عما في نفسه ويتخذ الموقف المنسجم مع مشاعره وعواطفه وفرعونيته. 

الطائفة الثالثة في عملية التجزئة الفرعونية لمجتمع الظلم أولئك الذين عبر عنهم الامام علي عليه الصلاة والسلام « بالهمج الرعاع » جماعة هم مجرد آلات مستسلمة للظلم ، لا تحس بالظلم لا تدرك انها مظلومة ولا تدرك ان في المجتمع ظلما ، هي آلات تتحرك تحركا آليا ، تحركا يشبه التحرك الميكانيكي للآلة ، تحرك التبعية والطاعة دون تدبير ، دون وعي ، سلب فرعون منها تدبرها ، عقلها ، وعيها ، ربط يدها به لا عقلها به ، ولهذا فهي تحرك يدها تحريكا آليا وتستسلم للاوامر ، للاوامر الفرعونية دون أن تناقشها حتى دون ان تتدبرها ، حتى بينها وبين نفسها لا بينها وبين الآخرين ، هذه الفئة طبعا تفقد كل قدرة على الابداع البشري في مجال التعامل مع الطبيعة ، تفقد كل قابليات النمو لانها تحولت الى آلات ، اذا وجد أن هناك ابداع في هذه الفئة انما هو ابداع من يحرك هذه الآلات ، ابداع تلك الفرعونية التي تحرك هذه الآلات ، وأما هذه الفئة فلم تعد أناسا وبشرا يفكرون ويتدبرون لكي يستطيعوا أن يحققوا لونا من الابداع على هذه الساحة. 
قال الله سبحانه وتعالى « وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا » (الأحزاب/67) لا يوجد في كلام هؤلاء ما يشعر بأنهم كانوا يحسون بالظلم أو كانوا يحسون بأنهم مظلومون ، وانما هو مجرد طاعة ، مجرد تبعية ، هؤلاء هم القسم الثالث في تقسيم مولانا أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام حينما قال « الناس ثلاثة : عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق ».

 وهذا القسم الثالث يشكل مشكلة بالنسبة الى أي مجتمع صالح وبقدر ما يمكن للمجتمع الصالح أن يستأصل هذا القسم الثالث بتحويله الى القسم الثاني ، بتحويله الى متعلم على سبيل النجاة على حد تعبير الامام ، الى تابع باحسان على حد تعبير القرآن ، الى مقلد بوعي وتبصر على حد تعبير الفقه ، بقدر ما يمكن تحويل هذا القسم الثالث الى القسم الثاني يمكن للمجتمع الصالح أن يستمر وأن يمتد ولهذا كان من ضرورات المجتمع الصالح في نظر الامام عليه الصلاة والسلام هو شجب هذا القسم الثالث ، هؤلاء همج ، رعاع ينعقون مع كل ناعق ليس لهم عقل مستقل ، وارادة مستقلة. كان الامام (ع) يرى ان هذا القسم الثالث يجب تصفيته من المجتمع الصالح ، ذلك لا بالقضاء عليه فرديا ، بل بتحويله الى القسم الثاني ضمن أحد الصيغ الثلاثة التي ذكرناها ، لكي يستطيع المجتمع الصالح أن يواصل ابداعه ، ولكي يستطيع كل أفراد المجتمع الصالح ، ان يشكلوا مشاركة حقيقية في مسيرة الابداع.

وخلافا لذلك الفرعونية ، الفرعونية تحاول ان توسع من هذا القسم الثالث ، هؤلاء الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كل ناعق تحاول الفرعونية ان توسع منهم وكلما توسعت هذه الفئة اكثر فأكثر قدمت المجتمع نحو الدمار خطوة بعد خطوة لان هذه الفئة لا تستطيع بوجه من الوجوه ان تدافع عن المجتمع اذا حلت كارثة في الداخل أو طرأت كارثة من الخارج ، فكلما توسعت هذه الفئة ، هذا القسم الثالث ، هؤلاء الذين ينعقون مع كل ناعق ، كلما توسعوا في المجتمع ازداد خطر فناء المجتمع وبهذا تموت المجتمعات موتا طبيعيا. مفهوم الموت لدى القرآن للمجتمعات وللاقوام وللامم الموت الطبيعي للمجتمع لا الموت المخروم. المجتمع له موتان : موت طبيعي وموت مخروم. الموت الطبيعي للمجتمع يكون عن طريق توسع هذه الفئة الثالثة وازديادها نوعيا وعدديا في المجتمع الى ان تحل الكارثة فينهار المجتمع. هذه الطائفة الثالثة في عملية التجزئة الفرعونية

 أما الطائفة الرابعة : هم اولئك الذين يستنكرون الظلم في أنفسهم ، اولئك الذين لم يفقدوا لبهم أمام فرعون والفرعونية فهم يستكنرون الظلم لكنهم يهادنونه ويسكتون عنه فيعيشون حالة التوتر والقلق في أنفسهم وهذه الحالة ، حالة التوتر والقلق أبعد ما تكون عن حالة تسمح للانسان بالابداع والتجديد والنمو على ساحة علاقات الانسان مع الطبيعة.
 هؤلاء يسميهم القرآن الكريم «ظالمي انفسهم » ، قال الله سبحانه وتعالى « الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ، قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض ، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها » (النساء/97) هؤلاء لم يظلموا الاخرين ، ليسوا من الظالمين المستضعفين كالطائفة الاولى ، وليسوا من الحاشية المتملقين ، وليسوا أيضا من الهمج الرعاع الذين فقدوا لبهم بل بالعكس هم يشعرون بأنهم مستضعفون. «قالوا كنا مستضعفين في الارض » هؤلاء لم يفقدوا لبهم ، يدركون واقعهم ولكنهم كانوا عمليا مهادنين ولهذا عبر عنهم القرآن بأنهم ظلموا أنفسهم هذه الطائفة هل يترقب منها أن تساعد بابداع حقيقي في مجال علاقات الانسان مع الطبيعة؟ طبعا كلا
 الطائفة الخامسة في عملية التجزئة الفرعونية للمجتمع هي : الطائفة التي تتهرب من مسرح الحياة ، تبتعد عن المسرح وتتهرب منه وتترهب. وهذه الرهبانية موجودة في كل مجتمعات الظلم على مر التاريخ وهي تتخذ صيغتين:
 الأولى صيغة جادة ، رهبانية جادة تريد ان تفر بنفسها لكي لا تتلوث بأوحال المجتمع ، هذه الرهبانية الجادة التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله « ورهبانية ابتدعوها » (الحديد/27) هذه الرهبانية يشجبها الاسلام لانها موقف سلبي تجاه مسؤولية خلافة الانسان على الارض. وهناك صيغة مفتعلة للرهبانية ، يترهب ويلبس مسوح الرهبان ولكنه ليس راهبا في اعماق نفسه ، وانما يريد بذلك ان يخدر الناس ويشغلهم عن فرعون وظلم فرعون ويسطو عليهم نفسيا وروحيا. وهذا هو الذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله « إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله » (التوبة/34)

 الجماعة السادسة والاخيرة في عملية التجزئة الفرعونية للمجتمع هم : المستضعفون. الفرعونية حينما جزأت المجتمع الى طوائف ، فرعون حينما اتخذ من قومه شيعا استضعف طائفة معينة منهم خصها بالاستضعاف والاذلال وهدر الكرامة لانها كانت هي الطائفة التي يتوسم ان تشكل اطارا للتحرك ضده ولهذا استضعفها بالذات. « وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ، يذبحون ابناءكم ويستحييون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم » (البقرة/49) 

هذه هي الطائفة السادسة وقد علمنا القرآن الكريم ضمن سنة من سنن التاريخ ايضا ان موقع اي طائفة في التركيب الفرعوني لمجتمع الظلم يتناسب عكسا مع موقعه بعد انحسار الظلم ، وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى « ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض فنجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين » (القصص/5).

تلك الطائفة السادسة التي كانت هي منحدر التركيب يريد الله سبحانه وتعالى ان يجعلهم ائمة ويجعلنم الوارثين وهذه علاقة اخرى وسنة تاريخية اخرى يأتي الحديث عنها ان شاء الله تعالى ، اذن فإلى هنا استخلصنا هذه الحقيقة وهي : ان المجتمع يتناسب مدى الظلم فيه تناسبا عكسيا مع ازدهار علاقات الانسان مع الطبيعة ، ويتناسب مدى العدل فيه تناسبا طرديا مع ازدهار علاقات الانسان مع الطبيعة. مجتمع الفرعونية المجزأ المشتت مهدور القابليات والطاقات والامكانيات ومن هنا تحبس السماء قطرها ، وتمنع الارض بركاتها. واما مجتمع العدل فهو على العكس تماما هو مجتمع تتوحد فيه كل القابليات وتتساوى فيه كل الفرص والامكانيات هذا المجتمع الذي تحدثنا الروايات عنه، تحدثنا عنه من خلال ظهور الامام المهدي عليه الصلاة والسلام ، تحدثنا عما تحتفل به الارض والسماء في ظل الامام المهدي (ع) من بركات وخيرات وليس ذلك الا لان العدالة دائما وأبدا تتناسب طردا مع ازدهار علاقات الانسان مع الطبيعة ، هذه العلاقة الثانية بين الخطين.





 من دروس السيد محمد باقر الصدر "مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن"


الأربعاء، 4 يونيو 2014

مقدمات في التفسير الموضوعي ..الدرس الثاني عشر


مقدمة في تحليل عناصر المجتمع، إن المجتمع يتكون من ثلاثة عناصر وهي: الانسان والطبيعة والعلاقة في الحلقة التاريخية، وقد تحدثنا عن الانسان ودوره الأساسي في الحلقة التاريخية وتحدثنا عن الطبيعة وشأنها على الساحة التاريخية وبقي علينا أن نأخذ العنصر الثالث وهو: العلاقة الاجتماعية لنحدد موقفنا من هذه العلاقة الاجتماعية على ضوء ما انتهينا إليه من مواقف قرآنية تجاه دور الانسان والطبيعة على الساحة التاريخية.

 العنصر الثالث هو العلاقة الاجتماعية وقد تقدم أن العلاقة الاجتماعية تتضمن علاقتين مزدوجتين إحداهما علاقة الانسان مع الطبيعة والأخرى علاقة الانسان مع أخيه الانسان، هذان خطّان من العلاقة الاجتماعية، وهذان الخطان نؤمن بأن كل واحد منهما مختلف عن الآخر ومستقل استقلالا نسبيا عن الآخر مع شيء من التفاعل والتأثير المتبادل المحدود الذي سوف نشرحه بعد ذلك ان شاء الله تعالى.

 من حيث الأساس، هذان الخطان أحدهما مختلف عن الآخر ومستقل استقلالا نسبيا عنه تبعا للاختلاف النوعي في طبيعة المشكلة التي يواجهها كل واحد من هذين الخطين ونوع الحل الذي ينسجم مع طبيعة تلك المشكلة.
فالخط الأول الذي يمثل علاقات الانسان مع الطبيعة من خلال استثمارها ومحاولة تطويعها وانتاج حاجاته الحياتية منها. هذا الخط يواجه مشكلة وهي مشكلة التناقض بين الانسان والطبيعة، ويعني تمرد الطبيعة وتعصيها عن الاستجابة للطلب الانساني وللحاجة الانسانية من خلال التفاعل ما بينهما، هذا التناقض بين الانسان والطبيعة هو المشكلة الرئيسية على هذا الخط وهذا التناقض له حل من قانون موضوعي يمثل سنة من سنن التاريخ الثابتة، وهذا القانون هو قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة، ذلك لان الانسان كلما تضاءل جهله بالطبيعة وكلما ازدادت خبرته بلغتها وبقوانينها ازدادت سيطرة عليها وتمكنا من تطويعها وتذليلها لحاجاته وحيث إن كل خبرة تتولد في هذا الحقل عادة من الممارسة ، وكل ممارسة تولد بدورها خبرة ولهذا كان قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة قانونا موضوعيا يكفل حل هذا التناقض، يقدم الحل المستمر والمتنامي لهذا التناقض بين الانسان والطبيعة. اذ يتضاءل جهل الانسان باستمرار وتنمو معرفته باستمرار من خلال ممارسته للطبيعة يكتسب خبرة جديدة، هذه الخبرة الجديدة تعطيه سيطرة على ميدان جديد من ميادين الطبيعة فيمارس على الميدان الجديد وهذه الممارسة بدورها ايضا تتحول الى خبرة وهكذا تنمو الخبرة الانسانية باستمرار ما لم تقع كارثة كبرى طبيعية او بشرية، وهذا القانون بنموه وبتطبيقاته التاريخية يعطي الحلول التدريجية لهذه المشكلة، فهي مشكلة محلولة تاريخيا ومحلولة موضوعيا.
 ولعل في الآية الكريمة « وآتاكم من كل ما سألتموه، إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها » ( سورة ابراهيم/34) لعل في الآية الكريمة اشارة الى هذا الحل الموضوعي المستمد من قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة لأن السؤال في الآية الكريمة «وآتاكم من كل ما سألتموه» لا يراد منه الدعاء طبعا السؤال اللفظي الذي هو الدعاء، لأن الآية تتكلم عن الانسانية ككل عمن يؤمن بالله ومن لا يؤمن بالله ، من يدعو الله ومن لا يدعو الله ، كما إن الدعاء لا يتضمن حتما تحصيل الشيء المدعو به ، نعم كل دعاء له استجابة، لكن ليس لكل دعاء تحقيق لما تعلق به الدعاء ، بينما هنا يقول « وآتاكم من كل ما سألتموه » هنا ايتاء ، استجابة فعلية بعطاء ما سئل عنه ، فأكبر الظن ان هذا السؤال من الانسانية ككل وعلى مر التاريخ وعبر الماضي والحاضر والمستقبل يتمثل في السؤال الفعلي والطلب التكويني الذي يحقق باستمرار التطبيقات التاريخية لقانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة ، هذه هي المشكلة التي يواجهها الخط الاول من العلاقات ، وهذا هو الحل الذي يوضع لهذه المشكلة.

 واما الخط الثاني من العلاقات علاقات الانسان مع اخيه الانسان في مجال توزيع الثورة أو في سائر الحقول الاجتماعية أو في أوجه التفاعل الحضاري بين الانسان واخيه الانسان ، فهذا الخط يواجه مشكلة أخرى ، ليست المشكلة هنا هي التناقض بين الانسان والطبيعة بل هي التناقض الاجتماعي بين الانسان واخيه الانسان.

وهذا التناقض الاجتماعي بين الانسان واخيه الانسان يتخذ على الساحة الاجتماعية صيغا متعددة والوانا مختلفة ولكنه يظل في حقيقته وجوهره يظل شيئا ثابتا وحقيقة واحدة وروحا عامة وهي التناقض ما بين القوي والضعيف ، بين كائن في مركز القوة وكائن في مركز الضعف ، هذا الكائن الذي هو في مركز القوة اذا لم يكن قد حل تناقضه الخاص ، جدله الانساني من الداخل فسوف يفرز لا محالة صيغة من صيغ التناقض الاجتماعي ومهما اختلفت الصيغة في مضمونها القانوني وفي شكلها التشريعي وفي لونها الحضاري فهي بلا شك صيغة من صيغ التناقض بين القوي والضعيف.
قد يكون هذا القوي فردا فرعونا ، قد يكون طبقة ، قد يكون شعبا ، قد يكون امة ، كل هذه الوان من التناقض كلها تحتوي روحا واحدا وهي روح الصراع ، روح الاستغلال من القوي الذي لم يحل تناقضه الداخلي وجدله الانساني، الصراع بينه وبين الضعيف ومحاولة استغلال هذا الضعيف.

 هذه اشكال متعددة من التناقض الاجتماعي الذي يواجهه خط العلاقات بين الانسان واخيه الانسان وهذه الاشكال المتعددة ذات الروح الواحدة كلها تنبع من معين واحد ، من تناقض رئيسي واحد ، وهو ذلك الجدل الانساني الذي شرحناه القائم بين حفنة التراب وبين اشواق الله سبحانه وتعالى ، ما لم ينتصر أفضل النقيضين في ذلك الجدل الانساني فسوف يظل هذا الانسان يفرز التناقض تلو التناقض والصيغة بعد الصيغة حسب الظروف والملابسات ، حسب الشروط الموضوعية ومستوى الفكر والثقافة.

 اذن النظرة الاسلامية من زاوية المشكلة التي يواجهها خط العلاقات بين الانسان واخيه الانسان نظرة واسعة ، منفتحة ، معمقة ، لا تقتصر على لون من التناقض ، ولا تهمل ألوان أخرى من التناقض ، بل هي تستوعب كل أشكال التناقض على مر التاريخ وتنفذ الى عمقها وتكشف حقيقتها الواحدة ، وروحها المشتركة ثم تربط كل هذه التناقضات تربطها بالتناقض الاعمق ، بالجدل الانساني ، ومن هنا يؤمن الاسلام بأن الرسالة الوحيدة القادرة على حل هذه المشكلة التي يواجهها خط علاقات الانسان مع الانسان هو تلك الرسالة التي تعمل على مستويين في وقت واحد ، تعمل من أجل تصفية التناقضات الاجتماعية على الساحة لكن في نفس الوقت وقبل ذلك وبعد ذلك تعمل من أجل تصفية ذلك الجدل في المحتوى الداخلي للانسان من أجل تجفيف منبع تلك التناقضات الاجتماعية، ويؤمن الاسلام بأن ترك ذلك المعين من الجدل والتناقض على حالة والاشتغال بتصفية التناقضات على الساحة الاجتماعية بصيغتها التشريعية فقط هذا نصف العملية ، النصف المبتور من العملية اذ سرعان ما يفرز ذلك المعين صيغا أخرى وفق هذه العملية التي سوف نستأصل بها الصيغ السابقة.

 فلا بد للرسالة التي تريد أن تضع الحل الموضوعي للمشكلة ان تعمل على كلا المستويين، أن تؤمن بجاهدين، جهاد أكبر سماه الاسلام « بالجهاد الاكبر » وهو الجهاد لتصفية ذلك التناقض الرئيسي ، لحل ذلك الجدل الداخلي. وجهاد آخر ، جهاد في وجه كل صيغ التناقض الاجتماعي وفي وجه كل ألوان استئثار القوي للضعيف من دون ان نحصر أنفسنا في نطاق صيغة معينة من صيغ هذا الاستئثار لأن الاستئثار جوهره واحد مهما اختلفت الصيغة.

 هذه هي النظرة المنفتحة الواقعية التي اثبتت التجربة البشرية باستمرار انطباقها على واقع الحياة خلافا للنظرة الضيقة التي فسرت بها المادية والثوار الماديون التي فسروا بها التناقض. فان ماركس على الرغم من ذكائه الفائق الا انه لم يستطع ان يتجاوز حدود النظرة التقليدية للانسان الاوروبي ، كان بحكم كونه فردا أوروبيا ، كان رهين هذه النظرة التقليدية. الانسان الاوروبي دائما يرى العالم ينتهي حيث تنتهي الساحة الاوروبية أو الساحة الغربية بتعبير أعم كما يعتقد اليهود بأن الانسانية هي كلها في اطارهم « ليس علينا في الأميين من سبيل » أولئك ليسوا بشرا ، ليسوا أناسا ، أولئك أميين ، همج ، كذلك الانسان الاوروبي اعتاد أن يضع الدنيا كلها في اطار ساحته الاوروبية والغربية ، لم يتخلص هذا الرجل ( يقصد به كارل ماركس) من تقاليد هذه النظرة الاوروبية ، كما أنه لم يتخلص من هيمنة العامل الطبقي الذي لعب دورا في أفكار المادية التاريخية ، ومن هنا جاء لنا بتفسير محدود ضيق للتناقض الذي تواجهه الانسانية على هذا الخط اعتقد بأن مرد كل التناقضات على الساحة البشرية الى تناقض واحد هو التناقض الطبقي ، التناقض بين طبقة تملك كل وسائل الانتاج أو معظم وسائل الانتاج وطبقة لا تملك شيئا من وسائل الانتاج وانما تعمل من أجل مصالح الطبقة الاولى تستثمر في تشغيل وسائل الانتاج التي تملكها الطبقة الاولى ثم هذه الثروة المنتجة التي جسدت عرق جبين هذا العامل المستغل هذه الثورة المنتجة يستولي عليها الطبقة الاولى المالكة ولا يعطي للطبقة الثانية منها الا الحد الادنى ، حد الكفاف الذي يضمن استمرار حياة هذه الطبقة لكي تواصل خدمتها وممارستها ضمن اطار الطبقة الاولى ، هذا هو التناقض الطبقي الذي اتخذه قاعدة واساسا لكل ألوان التناقض الاخرى ، وهذا التناقض يتخذ مدلوله الاجتماعي من خلال صراع مرير بين الطبقة المالكة وما بين الطبقة العاملة ، وهذا الصراع المرير بين هاتين الطبقتين ينمو ويشتد كلما تطورت الآلة وكلما نمت الآلة الصناعية وتعقدت وذلك لان الآلة كلما تطورت أدت الى تخفيض في مستوى المعيشة وهذا التخفيض في مستوى المعيشة يعطي فرصة للطبقة الرأسمالية المالكة في ان تخفض أجر العامل لانها لا تريد ان تعطي العامل أكثر مما يديم به حياته ونفسه. اذن باستمرار تتطور الآلة، باستمرار تنخفض كلفة المعيشة وبأستمرار يخفض الرأسمالي أجرة العامل هذا من ناحية، من ناحية ثانية إن تطور الآلة وتعقدها يقتضي امكانية التعويض عن العدد الكبير من العمال بالعدد القليل من العمال لان دقة الآلة وعملقة الآلة سوف يعوض عن الجزء الآخر من العمال وهذا يجعل الطبقة الرأسمالية تطرد الفائض من العمال باستمرار وهكذا يشتد الصراع بين الطبقتين ويحتدم التناقض حتى ينفجر في ثورة ، هذه الثورة تجسدها الطبقة العاملة تقضي بها على التناقض الطبقي في المجتمع وتوحد المجتمع في طبقة واحده وهذه الطبقة الواحدة تمثل حينئذ كل أفراد المجتمع وفي حالة من هذا القبيل سوف تستأصل كل ألوان التناقض لان أساس التناقض هو التناقض الطبقي ، فاذا أزيل التناقض الطبقي زالت كل التناقضات الاخرى الفرعية والثانوية. هذا تلخيص سريع جدا لوجهة نظر هؤلاء الثوار تجاه التناقض الذي عالجناه.

إلا أن هذه النظرة الضيقة لا تنجسم في الحقيقة مع الواقع ولا تنطبق على تيار الأحداث في التاريخ. ليس التناقض الطبقي وليس تطور الآلة بل هو وليد الانسان ، هو من صنع الانسان الاوروبي ، ليست الآلة هي التي صنعت استغلال الرأسمالي للعامل ، ليست الآلة هي التي خلقت النظام الرأسمالي ، وانما الانسان الاوروبي الذي وقعت هذه الآلة بيده افرز نظاما رأسماليا يجسد قيمه في الحياة وتصوراته للحياة ، وليس التناقض الطبقي هو الشكل الوحيد من اشكال التناقض ، هناك صيغ كثيرة للتناقض على الساحة الاجتماعية ، وليس التناقض الطبقي هو التناقض الرئيسي بالنسبة الى تلك الاشكال وانما كل هذه الاشكال من التناقض على الساحة الاجتماعية هي وليد تناقض رئيس وهو جدل الانسان ، هو الجدل المخبوء في داخل محتوى الانسان ذاك هو التناقض الرئيس الذي يفرز دائما وأبدا صيغا متعددة من التناقض. تعالوا نلاحظ ونقارن بين هذه النظرة الضيقة وبين واقع التجربة البشرية المعاصرة لنرى أي النظريتين أكثر انطباقا على العالم الذي نعيشه ، ونرى ماذا كنا نتوقع ، ماذا كنا ننتظر لو كانت هذه النظرة وكان هذا التفسير للتناقض ، لو كان صحيحا وواقعيا ، ماذا كنا ننتظر وماذا كنا نتوقع؟

 كنا ننتظر ونتوقع أن يزداد يوما بعد يوم التناقض الطبقي والصراع بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة في المجتمعات الاوروبية الصناعية التي تطورت فيها الآلة تطورا كبيرا. كان من المفروض أن هذه المجتمعات كانكلترا والولايات الامريكية المتحدة وفرنسا وألمانيا أن يشتد فيها التناقض الطبقي والصراع يوما بعد يوم ويتزلزل النظام الرأسمالي المستغل ويتداعى يوما بعد يوم ، ويزداد الثراء على حساب هؤلاء العاملين في طبقة الرأسماليين المستغلين من الامريكان والانجليز والفرنسيين وغيرهم ، كما نترقب حالة من هذا القبيل ، كنا نترقب أن تتضاعف النقمة ، أن يشتد ايمان العامل الاوروبي والعامل الامريكي بالثورة وبضرورة الثورة وبأنها هي الطريق الوحيد لتصفية هذا التناقض الطبقي ، هذا ما كنا ننتظره لو صحت هذه الافكار عن تفسير التناقض ، لكن ما وقع خارجا هو عكس ذلك تماما، نرى وبكل أسف أن النظام الرأسمالي في الدول الرأسمالية المستغلة يزداد ترسخا يوما بعد يوم لا تبدو عليه بوادر الانهيار السريع، تلك التمنيات الطيبة التي تمناها ثوارنا الماديون لانكلترا وللدول الاوروبية المتقدمة صناعيا، تمنوا لها الثورة في أقرب وقت بحكم التطور الآلي والصناعي فيها، تلك التمنيات الطيبة تحولت الى سراب ، بينما تحققت هذه النبوءات بالنسبة إلى بلاد لم تعش تطورا آليا بل لم تعيش تناقضا طبقيا بالمعنى الماركسي لانها لم تكن قد دخلت الباب العريض الواسع للتطور الصناعي من قبيل روسيا القيصرية والصين.

من ناحية أخرى هل ازداد العمال بؤسا وفقرا ، هل ازدادوا ااستغلالا؟ لا بالعكس العمال  ازدادوا رخاءا ، ازدادوا سعة، أصبحوا مدللين من قبل الطبقة الرأسمالية المستغلة. العامل الامريكي يحصل على ما لا يطع به انسان آخر يعمل بكد ويقطف ثمار عمله في المجتمعات الاشتراكية الاخرى ، هل ازدادت النقمة لدى الطبقة العاملة؟ العكس هو الصحيح ، العمال والهيئات التي تمثل العمال في الدول الرأسمالية المستغلة تحولت بالتدريج أكثر هذه الهيئات تحولت الى هيئات ذات طابع شبه ديمقراطي ، تحولت الى اشخاص لهم حالة الاسترخاء السياسي ، تركوا هموم الثورة ، تركوا منطق الثورة ، أصبحوا يتصافحون يدا بيد مع تلك الايدي المستغلة ، مع أيدي الطبقة الرأسمالية ، اصبحوا يرفعون شعار تحقيق حقوق العمال عن طريق النقابات وعن طريق البرلمانات وعن طريق الانتخابات ، هذه الحالة هي حالة الاسترخاء السياسي ، كل هذا وقع في هذه الفترة القصيرة من الزمن التي نحسها ، كيف وقع هذا كله؟ هل كان ماركس سيء الظن الى هذه الدرجة بهؤلاء الرأسماليين ، بهؤلاء المجرمين ، والمستغلين بحيث تنبأ بهذه النبوءات ثم ضاعت هذه النبوءات كلها فلم يتحقق شيء منها؟ هل كان هذا سوء ظن من ماركس لهؤلاء المستغلين؟ هل ان هؤلاء الرأسماليين المستغلين دخل في نفوسهم الرعب من ماركس ومن الماركسية ومن الثورات التحررية في العالم؟ هل دخل في أنفسهم الرعب فحاولوا أن يتنازلوا عن جزء من مكاسبهم خوفا من أن يثور العامل عليهم؟ هل هذا صحيح ، هل ان المليونير الامريكي يخالج ذهنه فعلا أي شبح من خوف من هذه الناحية ، اشد الناس تفاؤلا بمصائر الثورة في العالم لا يمكنه ان يفكر في ان ثورة حقيقية على الظلم في امريكا يمكن ان تحدث قبل مئة سنة من هذا التاريخ.
 فكيف يمكن ان نفترض ان المليونير الامريكي أصبح أمامه شبح الخوف والرعب على اساس هذا الشبح تنازل عن جزء من مكاسبه. هل انه دخلت الى قلوبهم التقوى فجأة؟ استنارت قلوبهم بنور الاسلام الذي أنار قلوب المسلمين الاوائل الذين كانوا لا يعرفون حدا للمشاركة والمواساة والذين كانوا يشاطرون اخوانهم غنائمهم وسرائهم وضرائهم ، هل تحول هؤلاء بين عشية وضحاها الى مسلمين ، الى قلوب مسلمة؟ لا ..
 لم يتحقق شيء من ذلك ، لا كارل ماركس كان سيء الظن بهؤلاء ، كان ظنه منطبقا على هؤلاء انطباقا تاما. ولا أن هؤلاء أرعبهم شبح العامل فتنازلوا من أجل اسكاته ولا ان قلوبهم خفقت بالتقوى لم تعرف التقوى ولن تعرف التقوى لانها انغمست في لذات المال وفي الشهوات ، لم يتحقق شيء من ذلك ، اذن ماذا وقع وكيف نفسر هذا الذي وقع ، هذا الذي وقع في الحقيقة كان نتيجة تناقض آخر عاش مع التناقض الطبقي منذ البداية ولكن ماركس والثوار الذين ساروا على هذا الطريق ، لم يستطيعوا أن يكتشفوا ذلك التناقض ولهذا حصروا أنفسهم في التناقض الطبقي في التناقض بين المليونير الانكليزي والعامل الانكليزي ، ولم يدخلوا في الحساب التناقض الاخر الاكبر الذي أفرزه جدل الانسان الاوروبي ، افرزه تناقض الانسان الاوروبي فغطى على هذا التناقض الطبقي ، بل جنده ، بل أوقفه الى فترة طويلة من الزمن ، ما هو ذلك التناقض؟

نحن بنظرتنا المنفتحة يمكننا أن نبصر ذلك التناقض ، أن نضع أصبعنا على ذلك التناقض لاننا لم نحصر انفسنا في اطار التناقض الطبقي ، بل قلنا أن جدل الانسان دائما يفرز أي شكل من أشكال التناقض الاجتماعي ، ذلك التناقض الآخر وجد فيه الرأسمالي المستغل الاوروبي والامريكي وجد فيه أن من طبيعة هذا التناقض ان يتحالف مع العامل ، مع من يستغله لكي يشكل هو والعامل قطبا في هذا التناقض!
 لم يعد التناقض تناقضا بين الغني الاوروبي والعامل الاوروبي بل ان هذين الوجودين الطبقيين تحالفا معا وكونا قطبا في تناقض اكبر بدأ تاريخيا منذ بدأ ذلك التناقض الذي تحدث عنه ماركس ، لكن ما هو القطب الاخر في هذا التناقض. القطب الاخر في هذا التناقض هو أنا وأنت وأنت هم الشعوب الفقيرة في العالم هو شعوب ما يسمى بـ « العالم الثالث » ، هم شعوب آسيا وأفريقيا وامريكا اللاتينية ، هذه الشعوب هي التي تمثل القطب الثاني في هذا التناقض ، ان الانسان الاوروبي بكلا وجوديه الطبقيين تحالف وتمحور من أجل أن يمارس صراعه واستغلاله لهذه الشعوب الفقيرة ، وقد انعكس هذا التناقض الاكبر ، انعكس أجتماعيا من خلال صيغ الاستعمار المختلفة التي زخرت بها الساحة التاريخية منذ خرج الانسان الاوروبي والامريكي من دياره ليفتش عن كنوز الارض في مختلف أرجاء العالم ولينهب الاموال بلا حساب من مختلف البلاد والشعوب الفقيرة ، هذا التناقض غطى على التناقض الطبقي ، بل جمد التناقض الطبقي لان جدل الانسان من وراء هذا التناقض كان أقوى من جدل الانسان من وراء ذلك التناقض. والثراء الهائل الذي تكدس في أيدي الطبقة الرأسمالية في الدول الرأسمالية لم يكن كله ، بل ولا معظمه نتاج عرق جبين العامل الاوروبي والامريكي ، وانما كان نتاج غنائم حرب ، كان نتائج غنائم غارات ، غارات على هذه البلاد الفقيرة على بلاد أخرى استطاع الانسان الابيض ان يغزوها وان ينهبها ، هذا النعيم الذي تغرق فيه تلك الدول ليس من عرق جبين العامل الاوروبي ، ليس من نتاج التناقض الطبقي بين الرأسمالي والعامل وانما هذا النعيم هو من نفط آسيا وامريكا اللاتينية ، هو من ألماس تنزانيا ، هو من الحديد والرصاص والنحاس واليوارنيوم في مختلف بلاد أفريقيا ، هو من قطن مصر ، هو من تنباك لبنان ، هو من خمر الجزائر! نم من خمر الجزائر لان الكافر المستعمر الذي استعمر الجزائر حول أرضها كلها الى بستان عنب لكي يقطف هذا العنب ويحوله الى خمر ليسكر به العمال ، وليشعر اولئك العمال بالنشوة والخيلاء ، لانهم يشربون خمر الجزائر ، يقطفون عنب الجزائر فيحولونه الى خمر! نعم ذلك النعيم ، لكن من هذه المصادر ، من هذه الينابيع! سكروا على خمر الجزائر ولم يسكروا على عرق جبين العامل الفرنسي أو الاوروبي أو الامريكي.

اذن التناقض الذي جمد ذلك التناقض والذي وقف ذلك التناقض هو هذا التناقض الاكبر التناقض بين المحور الراسمالي ككل بكلتا طبقتيه وما بين الشعوب الفقيرة في العالم. من خلال هذا التناقض وجد الرأسمالي الاوروبي والامريكي أن من مصلحته أن يقاسم العامل شيئا من هذه الغنائم التي نهبها مني ومنك التي نهبها من فقراء الارض والمستضعفين في الارض وان من مصلحته أن يعطي نعمة منها ، ان يسكر هو ويسكر العمال ايضا بخمر الجزائر ، ان يتزين بماس تنزانيا ويتزين العامل أو زوجته بماسة من ماسات تنزانيا ولهذا نرى أن العامل بدأت حياته تختلف عن نبوءات ماركس. ليس ذلك لاجل كرم طبيعي في الراسمالي الاوروبي والامريكي وليس لتقوى ، وانما هي غنيمة كبيرة كان من المفروض أن يعطي جزءا منها لهذا العامل والجزء وحده يكفي لاجل تحقيق هذا الرفاه بالنسبة الى هذا العامل الاوروبي والامريكي.

اذن الحقيقة التي يثبتها التاريخ دائما هو ان التناقض لا يمكن حصره في صيغة واحده ، التناقض له صيغ متعددة وذلك لان كل هذه الصيغ تنبع من منبع واحد وهو التناقض الرئيسي ، الجدل الانساني والجدل الانساني لا تعوزه صيغة. اذا حلت صيغة وضع صيغة أخرى مكانها ليس من الصحيح ان نطوق كل التناقضات في التناقض الطبقي ، في التناقض بين من يملك ومن لا يملك ، فاذا حللنا هذا التناقض قلنا بأن التناقضات كلها قد حلت ، التناقض لا يمكن حصره في هذه الصيغة. التناقض هو استغلال القوي للضعيف.


 من دروس السيد محمد باقر الصدر "مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن"

الخميس، 22 مايو 2014

مقدمات في التفسير الموضوعي..الدرس الحادي عشر


قال الله سبحانه وتعالى  «يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه » ( سورة الانشقاق/6)

 هذه الآية الكريمة تضع الله سبحانه وتعالى هدفا أعلى للانسان والانسان هنا بمعنى الانسانية ككل، فالانسانية بمجموعها تكدح نحو الله سبحانه وتعالى والكدح هنا كدح الانسانية ككل ، نحو الله سبحانه وتعالى، يعني السير المستمر بالمعاناة والجهد والمجاهدة، لأن هذا السير ليس سيرا اعتياديا ، بل هو سير ارتقائي ، هو تصاعد وتكامل، هو سير تسلق ، فهؤلاء الذين يتسلقون الجبال ليصلوا الى القمم يكدحون نحو هذه القمم ، يسيرون سير معاناة وجهد. كذلك الانسانية حينما تكدح نحو الله فانما هي تتسلق الى قمم كمالها وتكاملها وتطورها الى الافضل باستمرار.

 وهذا السير الذي يحتوي على المعاناة باستمرار يفترض طريقا لا محالة فإن السير نحو هدف يفترض حتما طريقا ممتدا بين السائر وبين ذلك الهدف. وهذا الطريق هو الذي تحدثت عنه الآيات الكريمة في المواضع المتفرقة تحت اسم سبيل الله واسم الصراط واسم صراط الله هذه الصيغ القرآنية المتعددة كلها تتحدث عن الطريق الذي يفترضه ذلك السير وكما أن السير يفترض الطريق، كذلك الطريق يفترض السير أيضا وهذه الآية الكريمة «يا أيها الانسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه » تتحدث عن حقيقة قائمة  عن واقع موضوعي ثابت. فهي ليست بصدد دعوة الناس الى أن يسيروا في طريق الله سبحانه وتعالى ، ليست بصدد الطلب والتحريك ، كما هو الحال في آيات أخرى في مقامات وسياقات قرآنية أخرى.


الآية القرآنية الكريمة لا تقول يا أيها الناس تعالوا الى سبيل الله ، توبوا الى الله، بل تقول « يا أيها الانسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه »، لغة الآية لغة التحدث عن واقع ثابت وحقيقة قائمة وهي أن كل سير وكل تقدم للانسان في مسيرته التاريخية الطويلة الامد ، فهو تقدم نحو الله سبحانه وتعالى وسير نحو الله سبحانه وتعالى حتى تلك الجماعات التي تمسكت بالمثل المنخفضة وبالآلهة المصطنعة واستطاعت ان تحقق لها سيرا ضمن خطوة على هذا الطريق الطويل ، حتى هذه الجماعات التي يسميها القرآن بالمشركين هم يسيرون هذه الخطوة نحو الله ، هذا التقدم بقدر فاعليته وبقدر زخمه هو اقتراب نحو الله سبحانه وتعالى ، لكن هناك فرق بين تقدم مسؤول وتقدم غير مسؤول ( على ما يأتي شرحه ان شاء الله ) ، حينما تتقدم الانسانية في هذا المفاض واعية على المثل الاعلى وعيا موضوعيا يكون التقدم تقدما مسؤولا ، يكون عبادة بحسب لغة الفقه ، لونا من العبادة يكون له امتداد على الخط الطويل وانسجام مع الوضع العريض للكون ، وأما حينما يكون التقدم منفصلا عن الوعي على ذلك المثل فهو تقدم على أي حال ، سير نحو الله على أي حال ، ولكنه تقدم غير مسؤول على ما يأتي تفصيله.


اذن التقدم هو تقدم نحو الله ، حتى أولئك الذين ركضوا وراء سراب كما تحدثت الآية الكريمة فإن هؤلاء الذين يركضون وراء السراب الاجتماعي ، وراء المثل المنخفضة ، حينما يصلوا الى هذا السراب لا يجدون شيئا ، ويجدون الله سبحانه وتعالى فيوفيهم حسابهم كما تتحدث الآية الكريمة ، والله سبحانه وتعالى هو نهاية هذا الطريق ولكنه ليس نهاية جغرافية ليس نهاية على نمط النهايات الجغرافية للطرق الممتدة مكانيا. كربلاء مثلا نهاية طريق ممتد بين النجف وكربلاء ، كربلاء بمعناها المكاني نهاية جغرافية ، ومعنى انها نهاية جغرافية انها موجودة على آخر الطريق ، ليست موجدة على طول الطريق ، لو أن انسانا سار نحو كربلاء ووقف في نصف الطريق لا يحصل على شيء من كربلاء ، لا يحصل على حفنة من تراب كربلاء اطلاقا ، لان كربلاء نهاية جغرافية موجودة في آخر الطريق ، ولكن الله سبحانه وتعالى ليس نهاية على نمط النهايات الجغرافية ، الله سبحانه وتعالى هو المطلق ، هو المثل الاعلى ، أي المطلق الحقيقي العيني ، وبحكم كونه هو المطلق ، اذن هو موجود على طول الطريق أيضا ، ليس هناك فراغ منه ، ليس هناك انحسار عنه ، ليس هناك حد له ، الله سبحانه وتعالى هو نهاية الطريق ولكنه موجود أيضا على طول الطريق ، من وصل الى نصف الطريق ، من وصل الى سرابه ، فتوقف واكتشف انه سراب ، ماذا يجد؟ ماذا وجد في الآية؟ .. وجد الله فوفاه الله حسابه لان المطلق موجود على طول الطريق وبقدر زخم الطريق وبقدر التقدم في الطريق يجد الانسان مثله الاعلى ، يلقى الله سبحانه وتعالى اينما توقف بحجم سيره ، وبحجم تقدمه على هذا الطريق. وبحكم أن الله سبحانه وتعالى هو المطلق اذن الطريق ايضا لا ينتهي هذا الطريق طريق الانسان نحو الله هو اقتراب مستمر يقدر التقدم الحقيقي نحو الله ، ولكن هذا الاقتراب يبقى اقترابا نسبيا ، يبقى مجرد خطوات على الطريق من دون ان يجتاز هذا الطريق ، لان المحدود لا يصل الى المطلق ، الكائن المتناهي لا يمكن ان يصل الى اللامتناهي ، فالفسحة الممتدة بين الانسان وبين المثل الاعلى هنا فسحة لا متناهية ، أي انه ترك له مجال الابداع الى اللانهاية ، مجال التطور التكاملي الى اللانهاية ، بأعتبار أن الطريق الممتد طريق لا نهائي.

 وهذا المثل الاعلى الحقيقي حينما تتبناه المسيرة الانسانية وتوفق بين وعيها البشري والواقع الكوني الذي يفترض هذا المثل الاعلى حقيقة قائمة كما افترضته الآية ، المسيرة الانسانية حينما توفق بين وعيها على المسيرة وبين الواقع الكوني لهذه المسيرة ، بوصفها سائرة ومتجهة نحو الله سوف يحدث تغيير كيفي وكمي على هذه المسيرة ، هذه الحركة سوف يحدث فيها تغيير كيفي وكمي.

أما التغير الكمي على هذه الحركة فهو باعتبار ما أشرنا اليه من أن الطريق حينما يكون طريقا الى المثل الاعلى الحق يكون طريقا غير متناهي ، أي أن مجال التطور والابداع ، والنمو قائم ابدا ودائما ، مفتوح للانسان باستمرار من دون توقف هذا المثل الاعلى حينما يتبنى سوف نمسح من الطريق كل الآلهة المزورة ، كل الاصنام وكل الاقزام المتصنمة على طريق الانسان التي تقف عقبة بين الانسان وبين وصوله الى الله سبحانه وتعالى ، ومن هنا كان دين التوحيد صراعا مستمرا مع مختلف اشكال الالهة والمثل المنخفضة والتكرارية التي حاولت ان تتحد من كمية الحركة الى نقطة ثم تقول قف أيها الانسان. هذه الالهة التي أرادت أن توقف الانسان في وسط الطريق ، وفي نقطة معينة كان دين التوحيد على مر التاريخ هو حامل لواء المعركة ضدها ، هذا المثل الاعلى اذن سوف يحدث تغييرا كميا على الحركة لانه يطلقها من عقالها ، يطلقها من هذه الحدود المصطنعة لكي تسير بأستمرار وأما التغيير الكيفي الذي يحدثه المثل الاعلى على هذه المسيرة فهذا التغيير الكيفي هو اعطاء الحل الموضوعي الوحيد للجدل الانساني ، للتناقض الانساني ، اعطاء الشعور بالمسؤولية الموضوعية لدى الانسان ، الانسان من خلال ايمانه بهذا المثل الاعلى ووعيه على طريق بحدوده الكونية الواقعية من خلال هذا الوعي ينشأ بصورة موضوعية ، شعور معمق لديه بالمسؤولية تجاه هذا المثل الاعلى لاول مرة في تاريخ المثل البشرية التي حركت البشر على مر التاريخ ، لماذا؟

لان هذا المثل الاعلى حقيقة وواقع عيني منفصل عن الانسان وبهذا يعطي للمسؤولية شرطها المنطقي فان المسؤولية الحقيقية لا تقوم الا بين جهتين بين مسؤول ومسؤول لديه. اذا لم تكن هناك جهة أعلى من هذا الكائن المسؤول واذا لم يكن هذا الكائن المسؤول مؤمنا بأنه بين يديه جهة أعلى لا يمكن ان يكون شعوره بالمسؤولية شعورا موضوعيا ، شعورا حقيقيا ، مثلا تلك المثل المنخفضة ، تلك الالهة ، تلك الاقزام المتعملقة على مر التاريخ ، على مر المسيرة البشرية هي في الحقيقة لم تكن كما رأينا وكما حللنا الا افرازا بشريا ، الا انتاجا انسانيا ، يعني انها جزء من الانسان جزء من كيان الانسان ، والانسان يمكن ان يستشعر بصورة موضوعية حقيقة المسؤولية تجاه ما يفرزه ، هو اتجاه ما يصنعه هو « إن هي إلا أسماء سميتموها » تلك المثل لا تصنع الشعور الموضوعي بالمسؤولية ، نعم قد تصنع قوانين ، قد تصنع عادات ، قد تصنع أخلاق ، ولكنها كلها عطاء ظاهري ، وكلما وجد هذا الانسان مجالا للتحلل من هذه العادات ، ومن هذه الاخلاق ، ومن هذه القوانين فسوف يتحلل.


بينما المثل الاعلى لدين التوحيد ، للانبياء على مر التاريخ باعتباره واقعا عينيا منفصلا عن الانسان ، باعتباره جهة اعلى من الانسان ليست افرازا بشريا ، ليست انتاجا انسانيا ، اذن سوف يتوصل للشعور بالمسؤولية ، شرطه الموضوعي في المقام ، لماذا كان الانبياء على مر التاريخ أصلاب الثوار على الساحة التاريخية ، أنظف الثوار على الساحة التاريخية ، لماذا كانوا على الساحة التاريخية فوق كل مساومة ، فوق كل مهادنة ، فوق كل تململ يمنة او يسرة ، لماذا كانوا هكذا ، لماذا انهار كثير من الثوار على مر التاريخ ولم يسمع أن نبيا من أنبياء التوحيد انهار أو تململ او أنحرف يمنة او يسرة عن الرسالة التي بيده وعن الكتاب الذي يحمله من السماء؟ لان المثل الاعلى المنفصل عنه الذي فوقه هو الذي اعطاه نفحة موضوعية من الشعور بالمسؤولية وهذا الشعور بالمسؤولية تجسد في كل كيانه في كل مشاعره وافكاره وعواطفه ، ومن هنا كان النبي معصوما على مر التاريخ ، اذن هذا المثل الاعلى بحسب الحقيقة يحدث تغييرا كيفيا على المسيرة لانه يعطي الشعور بالمسؤولية ، وهذا الشعور بالمسؤولية ليس أمرا عرضيا ، ليس امرا ثانويا في مسيرة الانسان ، بل هو شرط أساسي في امكان انجاح هذه المسيرة وتقديم الحل الموضوعي للتناقض الانساني للجدل الانساني ، لان الانسان يعيش تناقضا بحسب تركيبه وخلقته ، لانه هو تركيب من حفنة من تراب ونفخة من روح الله سبحانه وتعالى كما وصفت ذلك الآيات الكريمة.


الآيات الكريمة قالت بان الانسان خلق من تراب ، وقالت بانه نفخ فيه من روحه سبحانه وتعالى ، اذا فهو مجموع نقيضين اجتمعا والتحما في الانسان ، حفنة التراب تجره الى الارض ، تجره الى الشهوات الى الميول ، تجره الى كل ما ترمز اليه الارض من انحدار وانحطاط وروح الله سبحانه وتعالى التي نفخها فيها تجره الى أعلى تتسامى بانسانيته الى حيث صفات الله ، الى حيث اخلاق الله ، تتخلق باخلاق الله ، الى حيث العلم الذي لا حد له والقدرة التي لا حد لها ، الى حيث العدل الذي لا حد له ، الى حيث الجود والرحمة والانتقام ، الى حيث هذه الاخلاق الالهية ، هذا الانسان واقع في تيار هذا التناقض ، في تيار هذا الجدل بحسب محتواه النفسي ، بحسب تركيبه الداخلي ، هذا الجدل وهذا التناقض الذي احتوته طبيعة الانسان وشرحته قصة آدم على ما يأتي انشاء الله تعالى ، هذا الجدل الانساني له حل واحد فقط ، هذا الحل الواحد الذي يمكن ان يفرض لهذا التناقض هو الشعور بالمسؤولية لا الشعور المنبثق عن هذا الجدل فان الشعور المنبثق عن نفس هذا الجدل لا يحل هذا الجدل بل هو يساهم في افراز هذا التناقض وهذا الشعور الموضوعي بالمسؤولية لا يكفله الا المثل الاعلى الذي يكون جهة عليا ، يحس الانسان من خلالها بانه بين يدي رب قادر سميع بصير محاسب مجاز على الظلم ، مجاز على العدل.

 اذن هذا الشعور الموضوعي بالمسؤولية الذي هو التغير الكيفي على المسيرة هو في الحقيقة الحل الوحيد للتناقض وللجدل الذي تستبطنه طبيعة الانسان وتركيب الانسان. دور دين التوحيد اذن هو عبارة عن تعبيد هذا الطريق الطويل الطويل ، تعبيده وازالة العوائق من خلال تنمية الحركة كميا وكيفيا ومحاربة تلك المثل المصطنعة والمنخفضة والتكرارية التي تريد ان تجمد الحركة من ناحية وأن تعريها من الشعور بالمسؤولية من ناحية اخرى ، ومن هنا كان حرب الانبياء كما أشرنا كان حرب الانبياء مع الالهة المصطنعة على مر التاريخ ، ولما كان كل مثل من هذه المثل العليا التي تتحول الى تمثال ضمن ظروف تطورها بالشكل الذي شرحناه فيما سبق ، حينما تتحول الى تمثال نجد في مجموعة من الناس ، تجد فيهم مدافعين طبيعيين عنها باعتبار ان مجموعة من الناس ترتبط مصالحهم وترفهم وكيانهم المادي والدنيوي ببقاء هذا المثال الذي تحول الى تمثال ولهذا يقف دائما هؤلاء الذين يرتبطون مصلحيا بهذا التمثال ، يقفون دائما في وجهه الانبياء ليدافعوا عن مصالحهم ، عن دنياهم ، عن ترفهم ، ومن هنا ابرز القرآن الكريم سنة من سنن التاريخ وهي ان الانبياء دائما كانوا يواجهون المترفين من مجتمعاتهم كقطب آخر من المعارضة مع هذا النبي لان هذا المترف المستفيد من هذا المثال بعد ان تحول الى ذلك التمثال هذا المثال تحول الى تمثال فمن هو المستفيد منه؟ المستفيد منه المترفون في ذلك المجتمع ، المنعمون على حساب الناس الذين يجعلون من هذا التمثال مبررا لوجودهم ، من هنا يكون من الطبيعي ان هؤلاء المترفين وهؤلاء المستفيدين تجدهم دائما في الخط المعارض للانبياء ، «وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون » (سورة الزخرف/23).

« وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون » (سورة سبأ/34)

 « سأصرف عن آياتي الذي يستكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها. وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا. وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين » ( سورة الاعراف/146)

« وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الاخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون » (سورة المؤمنون/33).

 اذن دين التوحيد هو الذي يستأصل مصالح هؤلاء المترفين بالقضاء على آلهتهم وعلى مثلهم التي تحولت الى تماثيل ، يقطع صلة البشرية بهذه المثل العليا المنخفضة ولكنه لا يقطع صلتها بهذه المثل العليا المنخفضة لكي يطأ برأسها في التراب ، لكي يحولها الى كومة مادية ليس لها اشواق ليس لها طموحات ليس لها تطلعات الى اعلى كما هو شأن الثوار الماديين الذين يستلهمون من المادية التأريخية ومن الفهم المادي للتاريخ ، اولئك ايضا يحاربون هذه الالهة المصطنعة ويسمونها أفيون الشعوب ونحن ايضا نحارب هذه الالهة المصطنعة ولكننا نحن نحاربها لا لكي نحول الانسان الى حيوان ، لا لكي نقطع صلة الانسان بأشواقه العليا ، لا لكي نحول مسار الانسان من اعلى الى أسفل وانما نقطع صلة الانسان بهذه المثل المنخفضة لكي نشده الى المثل الاعلى لكي نشده الى الله سبحانه وتعالى وتبني المسيرة البشرية لهذا المثل الاعلى الحق الذي يحدث هذه التغيرات الكيفية والكمية على اتجاه المسيرة وحجمها ، تبني المسيرة البشرية لهذا المثل يتوقف على عدة أمور :


١ ـ على رؤية واضحة فكريا وايديولوجيا لهذا المثل الاعلى وهذه الرؤية الواضحة لهذا المثل الاعلى هو الذي تقدمه عقيدة التوحيد على مر التاريخ ، عقيدة التوحيد التي تنطوي على الايمان بالله سبحانه وتعالى ، التي توحد بين كل المثل ، بين كل الغايات وكل الطموحات وكل التطلعات البشرية وتوحد بينها في هذا المثل الاعلى الذي هو علم كله وقدرة كله وعدل كله وروحمة ، كله انتقام من الجبارين. هذا المثل الاعلى الذي تتوحد فيه كل الطموحات وكل الغايات ، هذا المثل الاعلى تعطينا عقيدة التوحيد رؤية واضحة له ، تعلمنا على ان نتعامل مع صفات الله واخلاق الله بوصفها حقائق عينية منفصلة عنا كما يتعامل فلاسفة الاغريق وانما نتعامل مع هذه الصفات والاخلاق بوصفها رائدا عمليا ، بوصفها هدفا لمسيرتنا العملية ، بوصفها مؤشرات على الطريق الطويل للانسان نحو الله سبحانه وتعالى. عقيدة التوحيد هي التي توفر هذا الشرط الاول وهو الرؤية الواضحة فكريا وايديولوجيا للمثل اعلى.


٢ ـ لابدّ من طاقة روحية مستمدة من هذا المثل الاعلى لكي تكون هذه الطاقة الروحية رصيدا ووقودا مستمرا للارادة البشرية على مر التاريخ ، هذه الطاقة الروحية ، هذا الوقود الذي يستمد من الله سبحانه وتعالى يتمثل في عقيدة يوم القيامة ، في عقيدة الحشر والامتداد ، عقيدة يوم القيامة تعلم الانسان ان هذه الساحة التاريخية الصغيرة التي يلعب عليها الانسان مرتبطة ارتباطا وثيقا بساحات برزخية وبساحات حشرية في عالم البرزخ والحشر. وان مصير الانسان على تلك الساحات العظيمة الهائلة مرتبط بدوره على هذه الساحة التاريخية. هذه العقيدة تعطي تلك الطاقة الروحية وذلك الوقود الرباني الذي ينعش ارادة الانسان ويحقق له دائما قدرته على التمديد والاستمرار.


٣ ـ ان هذا المثل الاعلى الذي تحدثنا عنه يختلف عن المثل العليا الاخرى التكرارية والمنخفضة التي تحدثنا عنها سابقا على اساس ان هذا المثل منفصل عن الانسان ، ليس جزءا من الانسان ، ليس من افراز الانسان ، بل هو منفصل عنه ، هو واقع عيني قائم هناك ، قائم في كل مكان وليس جزءا من الانسان ، هذا الانفصال يفرض وجود صلة موضوعية بين الانسان وهذا المثل الاعلى. بينما المثل الاخرى السابقة كانت انسانية ، كانت افرازا بشريا لاحاجة الى افتراض صلة موضوعية ، نعم هناك طواغيت وفراعنة على مر التاريخ نصبوا من انفسهم صلات موضوعية بين البشرية وبين آلهة الشمس ، آلهة الكواكب ولكنها صلة موضوعية مزيفة لان هذا الاله هناك كان وهما ، كان وجودا ذهنيا ، كان افرازا انسانيا ، اما هنا المثل الاعلى منفصل عن الانسان ولهذا كان لابدّ من صلة موضوعية تربط هذا الانسان بذلك المثل الاعلى. وهذه الصلة الموضوعية تتجسد في النبي في دور النبوة ، فالنبي هو ذلك الانسان الذي يركب بين الشرط الاول والشرط الثاني بأمر الله سبحانه وتعالى ، بين رؤية ايديولوجية واضحة للمثل الاعلى وطاقة روحية مستمدة من الايمان بيوم القيامة ، يركب بين هذين العنصرين ثم يجسد بدور النبوة. الصلة بين المثل الاعلى والبشرية هذا المركب الى البشرية بشيرا ونذيرا.


٤ ـ البشرية بعد ان تدخل مرحلة يسميها القرآن مرحلة الاختلاف على ما يأتي ان شاء الله شرحه في الدروس القادمة سوف لن يكفي مجيء البشير النذير لان مرحلة الاختلاف تعني مرحلة انتصاب تلك المثل المنخفضة او التكرارية ، تعني وجود تلك الالهة المزورة على الطريق ، وجود تلك الحواجب والعوائق عن الله سبحانه وتعالى ، اذن لابدّ للبشرية من ان تخوض معركة ضد الآلهة المصطنعة ، ضد تلك الطواغيت والمثل المنخفضة التي تنصب من نفسها قيما على البشرية وحاجب وقاطع طريق بالنسبة للمسيرة التاريخية ، لابدّ من معركة ضد هذه الآلهة ، لابدّ من قيادة تتبنى هذه المعركة وهذه القيادة هي الامامة ، هي دور الامام ، الامام هو القائد الذي يتولى هذه المعركة. 

ودور الامامة يندمج مع دور النبوة في مرحلة من مراحل النبوة يتحدث عنها القرآن وسوف نتحدث عنها ان شاء الله تعالى ونقول بانها بدأت في أكبر الظن مع نوح عليه الصلاة والسلام. ودور الامام يندمج مع دور النبوة ولكنه يمتد حتى بعد النبي اذا ترك النبي الساحة وبعد لاتزال المعركة قائمة ولا تزال الرسالة بحاجة الى مواصلة هذه المعركة من اجل القضاء على تلك الآلهة حينئذ يمتد دور الامامة بعد انتهاء النبي. هذا هو الشرط الرابع في تبني المسيرة التاريخية لهذا المثل الاعلى.

على هذا الضوء سوف نكون رؤية واضحة لما نسميه الأصول الخمسة ، سوف تقع أصول الدين الخمسة في موقعها الطبيعي الصحيح السليم من مسار الانسان ، أصول الدين الخمسة.

التوحيد : هو الذي يعطي الرؤية الواضحة فكريا وايديولوجيا ، هو الذي يجمع ويعبئ كل الطموحات وكل الغايات في مثل اعلى واحد وهو الله سبحانه وتعالى.

العدل : هو جانب من التوحيد ولكن انما فصل العدل صفة من صفات الله سبحانه وتعالى حال العدل ، حال العليم ، حال القدرة ، لا يوجد ميزة عقائدية في العدل في مقابل العلم ، في مقابل القدرة ولكن الميزة هنا ميزة اجتماعية ، ميزة القدوة. لأن العدل هو الصفة التي تعطي للمسيرة الاجتماعية وتغنيها والتي تكون المسيرة الاجتماعية بحاجة اليها اكثر من أي صفة أخرى ، أبرز العدل هنا كأصل ثاني من اصول الدين باعتبار المدلول التوجهي ، باعتبار المدلول التربوي لهذه الصفة ، قلنا بان صفات الله واخلاق الله علمنا الاسلام بان لا نتعامل معها كحقائق عينية ميتافيزقية فوقنا لا صلة لنا بها وإنما نتعامل معها كمؤشرات وكمنارات على الطريق اذن من هنا كان العدل له مدلوله الاكبر بالنسبة الى توجيه المسيرة البشرية ولاجل ذلك أفرز. وان العدل في الحقيقة هو داخل في اطار التوحيد العام ، في اطار المثل الاعلى.


 النبوة : النبوة هي التي توفر الصلة الموضوعية بين الانسان وبين المثل الاعلى. المسيرة البشرية كما قلنا حينما تبنت المثل الاعلى الحق المنفصل عنها الذي ليس من افرازها ومن انتاجها المنخفض كانت بحاجة الى صلة موضوعية. هذه الصلة الموضوعية يجسدها النبي (ص) ، النبي على مر التاريخ ، الانبياء عليهم الصلاة والسلام هم الذين يجسدون هذه الصلة الموضوعية.

الإمامة : الامامة هي في الحقيقة تلك القيادة التي تندمج مع دور النبوة ، النبي هو امام ايضا ، النبي نبي والنبي امام ولكن الامامة لا تنتهي بانتهاء النبي اذا كانت المعركة قائمة واذا ما كانت الرسالة لا تزال بحاجة الى قائد يواصل المعركة. اذن سوف يستمر هذا الجانب من دور النبي خلال الامامة. فالامامة هو الاصل الرابع من اصول الدين.

 الإيمان بيوم القيامة : هو الذي يوفر الشرط الثاني من الشروط الاربعة التي تقدمت ، هو الذين يعطي تلك الطاقة الروحية ، ذلك الوقود الرباني الذي يجدد دائما ارادة الانسان وقدرة الانسان ويوفر الشعور بالمسؤولية والضمانات الموضوعية. اذن اصول الدين في الحقيقة وبالتعبير التحليلي على ضوء ما ذكرناه هي كلها عناصر تساهم في تركيب هذا المثل الاعلى وفي اعطاء تلك العلاقة الاجتماعية بصفتها التاريخية ، بصفتها القرآنية الرباعية التي تحدثنا عنها في الدروس الماضية ، تحدثنا بان القرآن الكريم طرح العلاقة الاجتماعية ذات اربعة ابعاد لا ذات ثلاثة ابعاد ، طرحها بصيغة الاستخلاف وشرحنا في ما سبق صيغة الاستخلاف وقلنا بان الاستخلاف يفترض اربعة ابعاد ، يفترض انسانا وطبيعة والله سبحانه وتعالى وهو المستخلف.

 هذه الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية هي التعبير الاخر عن صيغة تدمج اصول الدين الخمسة في مركب واحد من اجل ان يسير الانسان ويكدح نحو الله سبحانه وتعالى في طريقه الطويل ، بما ذكرناه نوضح دور الانسان في المسرة التاريخية ، نوضح ان الانسان هو مركز الثقل في المسيرة التاريخية. هو مركز الثقل لا بجسمه الفيزيائي وانما بمحتواه الداخلي وهذا المحتوى الداخلي توضح ايضا من خلال ما شرحناه. ان الاساس في بناء هذا المحتوى الداخلي هو المثل الاعلى الذي يتبناه الانسان ، لان المثل الاعلى هو الذي تنبثق منه كل الغايات التفصيلية.

والغايات التفصيلية هي المحركات التاريخية للنشاطات على الساحة التاريخية. اذن المثل الاعلى وتبني المثل الاعلى هو في الحقيقة الاساس في بناء المحتوى الداخلي للانسان ومن هنا ظهر دور هذا البعد الرابع.




 من دروس السيد محمد باقر الصدر "مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن"