الأربعاء، 30 أبريل 2014

مقدمات التفسير الموضوعي ...الدرس العاشر


هذه المثل العليا المنخفضة المتنوعة عن الواقع والتي تحدثنا عنها في الدرس السابق في كثير من الاحيان تتخذ طابع الدين ويسبغ عليها هذا الطابع من اجل اعطائها قدسية تحافظ على بقائها واستمرارها على الساحة كما رأينا في الآيات الكريمة المتقدمة كيف ان المجتمعات التي رفضت دعوة الانبياء كثيرا ما كانت تصر على التمسك بعبادة الآباء وبدين الآباء بالمثل الاعلى المعبود للآباء. 
 بل ان الحقيقة أن كل مثل اعلى من هذه المثل العليا المنخفضة لا ينفك عن الثوب الديني سواء ابرز بشكل صريح او لم يبرز لان المثل الاعلى دائما يحتل مركز الاله بحسب التعبير القرآني والاسلامي ، ودائما تستبطن علاقة الامة بمثلها الاعلى نوعا من العبادة ، من العبادة لهذا المثل الاعلى وليس الدين بشكلها العام الاعلاقة عابد بمعبود.

 إذن المثل الاعلى لا ينفك عن الثوب الديني سواء كان ثوبا دينيا صريحا او ثوبا دينيا مستترا مبرقعا تحت شعارات اخرى فهو في جوهره دين وفي جوهره عبادة وانسياق. الا ان هذه الاديان التي تفرزها هذه المثل العليا المنخفضة اديان محدودة تبعا لمحدودية نفس هذه المثل لما كانت هذه المثل مثلا منخفضة ومحدودة قد حولت بصورة مصطنعة الى مطلقات والا هي في الحقيقة ليست الا تصورات جزئية عبر الطريق الطويل للانسان ، الا أنها حولت الى مطلقات بصورة مصطنعة.

 اذن هذه المحدودية في المثل تعكس الاديان التي تفرزها فالاديان التي تفرزها هذه المثل او بالتعبير الاخرى الاديان التي يفرزها الانسان من خلال صنع هذه المثل ، ومن خلال عملقة هذه المثل وتطويرها من تصورات الى مطلقات هذه الاديان تكون اديانا محدودة وضئيلة وتجزئة، وهذه التجزئة في مقابل دين التوحيد الذي سوف نتكلم عنه حينما نتحدث عن مثله الاعلى القادر على استيعاب البشرية بابعادها واديان التجزئة هذه وهذه الالهة ، التي فرزها الانسان بين حين وحين هي التي يعبر عنها القرآن الكريم بقوله « إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم » (النجم/23) فهذه الآلهة التي يفرزها الانسان ، هذا الدين الذي يصنعه الانسان ، وهذا المثل الاعلى الذي هو نتاج بشري ، هذا لا يمكن ان يكون هو الدين القيم ، لا يمكن ان يكون هو المصعد الحقيقي للمسيرة البشرية لان المسيرة البشرية لا يمكن ان تخلق الهها بيدها.

المجتمعات والامم التي تعيش هذا المثل الاعلى المنخفض المستمد من واقع الحياة ، قلنا بأنها تعيش حالة تكرارية يعني ان حركة التاريخ تصبح حركة تماثلية وتكرارية وهذه الامة تأخذ بيدها ماضيها الى الحاضر وحاضرها الى المستقبل ليس لها مستقبل في الحقيقة وانما مستقبلها هو ماضيها. 

ومن هنا اذا تقدمنا خطوة في تحليل ومراقبة ومشاهدة اوضاع هذه الامة التي تتمسك بمثل من هذا القبيل اذا تقدمنا خطوة الى الامام نجد ان هذه الامة بالتدريج سوف تفقد ولاءها لهذا المثل ايضا لن تظل متمسكة بهذا المثل لان هذا المثل بعد ان يفقد فاعليته وقدرته على العطاء بعد ان يصبح نسخة من الواقع ويصبح اجرا مفروضا ومحسوسا وملموسا وغير قادر على تطوير البشرية وتصعيدها في مسارها الطويل ، تفقد هذه البشرية وهذه الجماعة بالتدريج ولاءها لهذا المثل ومعنى انها تفقد ولاءها لهذا المثل يعني ان القاعدة الجماهيرية الواسعة في هذه الامة سوف تتمزق وحدتها لان وحدة هذه القاعدة انما هي بالمثل الواحد فاذا ضاع المثل ضاعت هذه القاعدة.

هذه الامة بعد ان تفقد ولاءها لهذا المثل تصاب بالتشتت ، بالتمزق ، بالتبعثر ، تكون كما وصف القرآن الكريم « بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون »(الحشر/14). بأسهم بينهم شديد باعتبار أن هذه الامة التي لا يجمعها شيء الا تماثل الوجوه وتقارب الوجوه لا يجمعها مثل اعلى لا تجمعها طريقة مثلى ، لا يجمعها سبيل واحد ، قلوب متفرقة اهواء متشتتة ارواح مبعثرة وعقول مجمدة في حالة من هذا القبيل لا تبقى امة وانما يبقى شبح امة فقط ، وفي ظل هذا الشبح سوف ينصرف كل فرد في هذه الامة ينصرف الى همومه الصغيرة ، الى قضاياه المحدودة لانه لا يوجد هناك مثل اعلى تلتف حوله الطاقات ، تلتف حوله القابليات والامكانات تحشد من اجله التضحيات لا يوجد هذا المثل الاعلى حينما يسقط هذا المثل الاعلى تسقط الراية التي توحد الامة، يبقى كل انسان مشدود الى حاجاته المحدودة ، الى مصالحه الشخصية الى تفكيره في اموره الخاصة كيف يصبح وكيف يمسي وكيف ياكل وكيف يشرب وكيف يوفر الراحة والاستقرار له ولاولاده ولعائلته أي راحة وأي استقرار ، الراحة بالمعنى

الرخيص ، بالمعنى القصير من الاستقرار يبقى كل انسان سجين حاجاته الخاصة ، سجين رغباته الخاصة يبقى يدور ويلتف حول هذه الرغبات وحول هذه الحاجات لا يرى غيرها ان لا يوجد المثل ، اذ ضاع المثل وتفتت وسقط في حالة من حالات هذه الامة ، قلنا بأن الامة تتحول الى شبح لا يبقى امة حقيقية ، وانما هناك شبح امة وقد علمنا التاريخ انه في حالة من هذا القبيل توجد ثلاث اجراءات ، ثلاث بدائل يمكن ان تنطبق على حالة هذه الامة الشبح.

الاجراء التاريخي الاول هو ان تتداعى هذه الامة امام غزو عسكري من الخارج لان هذه الامة التي افرغت من محتواها ، التي تخلت عن وجودها كأمة ، وبقيت كأفراد كل انسان يفكر في طعامه ولباسه ودار سكناه ولا يفكر في الامة من يفكر. اذا ففي وضع من هذا القبيل يمكن ان تتداعى هذه الامة امام غزو من الخارج ، وهذا ما وقع بالفعل بعد ان فقد المسلمون مثلهم الاعلى وفقدوا ولاءهم لهذا المثل الاعلى ووقعوا فريسة غزو التتار حينما سقطت حضارة المسلمين بايدي التتار هذا هو الاجراء التاريخي الاول.


والاجراء التاريخي الثاني : هو الذوبان والانصهار في مثل اعلى اجنبي في مثل مستورد من الخارج هذه
الامة بعد ان فقدت مثلها العليا النابعة منها فقدت فاعليتها واصالتها حينئذ تفتش عن مثل اعلى من الخارج تعطيه ولاءها لكي تمنحه قيادتها.هذا هو الاجراء التاريخي الثاني.


 والاجراء التاريخي الثالث ان ينشأ في اعماق هذه الامة بذور اعادة المثل الاعلى من جديد بمستوى العصر الذي تعيشه الامة ، هذان الاجراءان ، الثاني والثالث وقفت الامة امامهما على مفترق طريقين حينما دخلت عصر الاستعمار ، كان هناك طريق يدعوها الى الانصهار في مثل اعلى من الخارج هذا الطريق الذي طبقه جملة من حكام المسلمين في بلاد المسلمين « رضاخان » في ايران و « اتاتورك » في تركيا ، حاول هؤلاء ان يجسدوا المثل الاعلى للانسان الاوروبي المنتصر ويطبقوا هذا المثل الاعلى ويكسبوا ولاء المسلمين انفسهم لهذا المثل الاعلى بعد ان ضاع المثل الاعلى في داخل المسلمين ، بينما رواد الفكر الاسلامي في بدايات عصر الاستعمار وفي أواخر الفترة التي سبقت عصر الاستعمار ، رواد الفكر الاسلامي ورواد النهضة الاسلامية اطلقوا جهودهم في سبيل الاجراء الثالث في سبيل اعادة الحياة الى الاسلام من جديد في سبيل انتشار هذا المثل الاعلى واعادة الحياة اليه وتقديمه بلغة العصر وبمستوى العصر وبمستوى حاجات المسلمين. الامة تتحول الى شبح فتواجه احد هذه الاجراءات الثلاثة.


الان تكلمنا عن امة هذه الالهة المنخفضة. اذا تقدمنا خطوة نجد المثل التكراري يتمزق ، ان الامة تفقد ولاءها ، ان الامة تتحول الى شبح احد هذه اجراءات الثلاثة ، الان نرجع الى الوراء خطوة. سوف نواجه النوع الثاني من الالهة من المثل العليا اليس قلنا في البداية ان المثل العليا عكس ثلاثة انواع. تكلمنا الان عن النوع الاول.

اذا رجعنا خطوة اخرى الى الوراء وهذا ما سوف اشرح معناه بعد لحظات. سوف نواجه النوع الثاني من الالهة من المثل العليا. هذا النوع الثاني يعبر عن كل مثل أعلى للامة يكون مشتقا من طموح الامة ، من تطلعها نحو المستقبل ، ليس هذا المثل تعبير تكراريا عن الواقع بل هو تطلع الى المستقبل وتحفز نحو الجديد والابداع ، والتطوير ولكن هذا المثل منتزع عن خطوة واحدة من المستقبل منتزع عن جزء من هذا الطريق الطويل المستقبلي أي ان هذا الطموح الذي منه انتزعت الامة مثلها كان طموحا محدودا كان طموحا مفيدا لم يستطع ان يتجاوز المسافات الطويلة ، وانما استطاع ان يكون رؤية مستقبلية محدودة ، وهذه الرؤية المستقبلية المحدودة انتزع منها مثلها الاعلى وفي هذا المثل الاعلى جانب موضوعي صحيح ولكنه يحتوي على امكانيات خطر كبير اما الجانب الموضوعي الصحيح فهو ان الانسان عبر مسيرته الطويلة لا يمكنه ان يستوعب برؤيته الطريق الطويل الطويل كله ، لا يمكنه ان يستوعب المطلق لان الذهن البشري محدود والذهن البشري المحدود لا يمكن ان يستوعب المطلق وانما هو دائما يستوعب نفحة من المطلق ، شيئا من المطلق يأخذ بيده قبضة من المطلق تنير له الطريق ، تنير الدرب.

 فكون دائرة الاستيعاب البشري محدودة هذا أمر طبيعي أمر صحيح وموضوعي. ولكن الخطير في هذه المسألة ان هذه القبضة التي يقبضها الانسان من المطلق هذه القبضة هذه الكومة المحدودة ، هذه الومضة من النور التي يقبضها من هذا المطلق يحولها الى نور السماوات والارض ، يحولها الى مثل اعلى ، يحولها الى مطلق. هنا يكمن الخطر لانه حينما يصنع مثله الاعلى وينتزع هذا المثل من تصور ذهني محدود للمستقبل ، لكن يحول هذا التصور الذهني المحدود الى مطلق حينئذ هذا المثل الاعلى سوف يخدمه في المرحلة الحاضرة سوف يهيء له امكانية النمو بقدر طاقات هذا المثل ، بقدر ما يمثل المستقبل ، بقدر امكاناته المستقبلية سوف يحرك هذا الانسان وينشطه لكن سرعان ما يصل الى حدوده القصوى. وحينئذ سوف يتحول هذا المثل نفسه الى قيد للمسيرة ، الى عائق عن التطور ، الى مجمد لحركة الانسان لانه اصبح مثلا اصبح الها ، أصبح دينا ، أصبح واقعا قائما ، وحينئذ سوف يكون بنفسه عقبة أمام استمرار زحف الانسان نحو كماله الحقيقي ، وهذا المثل الذي يعمم خطأ يحول من محدود الى مطلق خطأ.


التعميم فيه تارة يكون تعميما افقيا خاطئا وأخرى تعميما زمنيا خاطئا. هناك تعميمان خاطئان لهذا المثل. هناك تعميم افقي خاطئ وهناك تعميم زمني عمودي خاطئ.


التعميم الأفقي الخاطئ : ان ينتزع الانسان من تصوره المستقبلي مثلا ويعتبر ان هذا المثل يضم كل قيم الانسان التي يجاهد من اجلها ويناضل في سبيلها. بينما هذا المثل على الرغم من صحته الا انه لا يمثل الا جزءا من هذه القيم. فهذا التعميم تعميم افقي خاطئ هذا المثل يكون معبرا عن جزء من افق الحركة بينما جرد منه ما يملأ كل افق الحركة. الانسان الاوروبي الحديث في بدايات عصر النهضة وضع مثلا اعلى وهو الحرية جعل الحرية مثلا اعلى لانه راى ان الانسان الغربي كان محطما ومقيدا ، كانت على يديه الاغلال في كل ساحات الحياة كان مقيدا في عقائده العلمية والدينية بحكم الكنيسة وتعنتها كان مقيدا في قوته ورزقه بأنظمة الاقطاع كان مقيدا اينما يسير. اراد الانسان الاوروبي الرائد لعصر النهضة ان يحرر هذا الانسان من هذه القيود ، من قيود الكنيسة ، من قيود الاقطاع اراد ان يجعل من الانسان كائنا مختارا اذا اراد ان يفعل يفعل ، يفكر بعقله لا بعقل غيره ويتصور ويتأمل بذاته ولا يستمد هذا التصور كصيغ ناجزة من الاخرين ، وهذا شيء صحيح الا ان الشيء الخاطئ في ذلك هو التعميم الافقي فان هذه الحرية بمعنى كسر القيود عن هذا الانسان ، هذا قيمة من القيم هذا اطار للقيم ولكن هذا وحده لا يصنع الانسان ، انت لا تستطيع ان تصنع الانسان بان تكسر عنه القيود وتقول له افعل ما شئت ، لا يوجد انسان ولا كائن ، لا يوجد اقطاعي ولا قسيس ولا سلطان ولا طاغوت يضطرك الى موقف او يفرض عليك موقفا. 

هذا وحده لا يكفي فان كسر القيوم انما يشكل الاطار للتنمية البشرية الصالحة ، يحتاج هذا الى مضمون الى محتوى مجرد انه يستطيع ان يتصرف ، يستطيع ان يمشي في الاسواق هذا لا يكفي ، اما كيف ويمشي وما هو الهدف الذي من اجله يمشي في الاسواق المحتوى والمضمون هو الذي فات الانسان الاوربي ، الانسان الاوربي جعل الحرية هدفا وهذا صحيح ولكنه صير من هذا الهدف مثلا اعلى بينما هذا الهدف ليس الا اطار في الحقيقة وهذا الاطار بحاجة الى محتوى والى مضمون واذا جرد هذا الاطار عن محتواه سوف يؤدي الى الويل والدمار ، الى الويل الذي تواجهه الحضارة الغربية اليوم التي صنعت للبشرية كل وسائل الدمار لان الاطار بقي بلا محتوى بقي بلا مضمون حينئذ. هذا هو مثلا للتعميم الافقي ، التعميم الافقي للمثل الاعلى.


واما التعميم الزمني ايضا كذلك على مر التاريخ توجد خطوات ناجحة تاريخيا ولكنها لا يجوز ان تحول من حدودها كخطوة الى مطلق ، الى مثل اعلى يجب ان تكون ممارسة تلك الخطوة ضمن المثل الاعلى لا ان تحول هذه الخطوة الى مثل اعلى حينما اجتمع في التاريخ مجموعة من الاسر فشكلوا القبيلة. ومجموعة من القبائل فشكلت عشيرة ، ومجموعة من العشائر فشكلت أمة هذه الخطوات صحيحة لتقدم البشرية وتوحيد البشرية ولكن كل خطوة من هذه لا يجب ان تتحول الى مثل اعلى لا يجوز ان تتحول الى مطلق ، لا يجوز ان تكون العشيرة هي المطلق الذي يحارب من اجله هذا الانسان وانما المطلق الذي يحارب من اجله الانسان يبقى هو ذاك المطلق الحقيقي ، يبقى هو الله سبحانه وتعالى ، الخطوة تبقى كاسلوب ولكن المطلق يبقى هو الله سبحانه وتعالى هذا التعميم الزمني ايضا هو شكل من التعميم الخاطئ حينما يحول هذا المثل المنتزع من خطوة محدودة عبر الزمن يحول الى مثل اعلى. وحال هذا الانسان الذي يحول هذه الرؤية المحدودة عبر الزمن يحولها الى مطلق حاله حال الانسان الذي يتطلع الى الافق فلا تساعده عينه الا الى النظر على مسافة محدودة فيخيل له ان الدنيا تنتهي عند الافق الذي يراه ، ان السماء تنطبق على الارض على مسافة قريبة منه وقد يخيل له وجود الماء ، وجود السراب على مقربة منه. الا ان هذا في الحقيقة ناشئ من عجز عينيه عن ان يتابع المسافة الارضية الطويلة الامد.


كذلك هنا هذا الانسان الذي يقف على طريق التاريخ الطويل ، على طريق المسيرة البشرية له افق يحكم قصوره الذهني وبحكم محدودية الذهن البشري. له افق كذلك الافق الجغرافي ولكن هذا الافق يجب ان يتعامل معه كافق لا كمطلق كما اننا نحن على الصعيد الجغرافي لا نتعامل مع هذا الافق الذي نراه على بعد عشرين مترا او مائتي متر انه نهاية الارض. وانما نتعامل معه بأنه أفق. كذلك ايضا هنا يجب ان يتعامل هذا الانسان معه كافق لا يحول هذا الافق التاريخي الى مثل اعلى والا كان من قبيل من يسير نحو سراب ، انظروا الى التمثيل الرائع في قوله سبحانه وتعالى : « والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب » (النور/39).
يعبر القرآن عن كل هذه المثل المصطنعة من دون الله سبحانه وتعالى بانها كبيت العنكبوت حيث يقول : « مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون » (العنكبوت/41).

اذا قارنا بين هذين النوعين من المثل العليا المشتقة من الواقع والمثل العليا المشتقة من طموح محدود للاحظنا ان المثل العليا المشتقة من الواقع كثيرا ما تكون قد مرت بمرحلة هذه المثل التي تعبر عن طموح محدود. يعني كثيرا ما تكون تلك المثل من النوع الاول امتداداً للمثل من النوع الثاني ، بأن يبدأ هذا المثل الاعلى مشتقا من طموح لكن حينما يتحقق هذا الطموح المحدود ، حينما تصل البشرية الى النقطة التي أثارت هذه المثل. يتحول هذا المثل الى واقع محدود بحسب الخارج ، حينئذ يصبح مثلا تكراريا من هنا قلنا في ما سبق أننا لو رجعنا خطوة الى الوراء بالنسبة الى الهة النوع الاول ، مثل النوع الاول. لو رجعنا الى الوراء لوجدنا آلهة النوع الثاني فالمسألة في كثير من الاحيان تبدأ هكذا ، تبدأ بمثل اعلى له طموح مشتق من طموح مستقبلي ثم يتحول هذا المثل الاعلى الى مثل تكراري ، ثم يتمزق هذا المثل التكراري كما قلنا وتتحول الامة الى شبح أمة.

في هذه الفترة الزمنية تمر الامة بمراحل في الحقيقة يمكننا تلخيصها في أربعة مراحل.
المرحلة الاولى هي مرحلة فاعلية هذا المثل بحكم انه قد بدأ مشتقا من طموح مستقبلي ولكن طبعا هذه الفاعلية وهذا العطاء هو عطاء يسميه القرآن بالعاجل ، هذه المكاسب عاجلة وليست مكاسب على الخط الطويل. عاجلة لان عمر هذا المثل قصير ، وعطاءه محدود ، لان هذا المثل سوف يتحول في لحظة من اللحظات الى قوة ابادة لكل ما أعطاه من مكاسب ولهذا يسمى بالعاجل. انظروا الى قوله تعالى « من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما يشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا. ومن أراد الاخرة وسعى لها سعيا وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا. كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا» (الإسراء/18-20) 

الله سبحانه وتعالى خير محض ، عطاء محض ، جود كله ، فبقدر ما تتبنى الامة مثلا قابلا للتحريك. الله سبحانه وتعالى ايضا يعطي لكنه يعطي بقدر قابلية هذا المثل يعطي شيئا عاجلا لا اكثر. في حالة من هذا القبيل تكون السلطة التي تمثل هذا المثل ذات مثل اعلى ، ذات مثل يعطي ويبدع وتكون قيادة موجهة للامة في حدود هذا المثل وتكون للامة دور المشاركة في صنع هذا المثل وفي تحقيق هذا المثل. هذه المرحلة سوف تؤدي الى مكاسب ولكنها في النظر القرآني العميق الطويل الامد مكاسب عاجلة تعقبها جهنم ، جهنم في الدنيا وجهنم في الآخرة. هذه المرحلة الاولى مرحلة الابداع والتجديد.

المرحلة الثانية حينما يتجمد هذا المثل الاعلى حينما يستنفذ طاقته وقدرته على العطاء حينئذ يتحول هذا المثل الى تمثال والقادة الذين كانوا يعطون ويوجهون على أساسه يتحولون الى سادة وكبراء لا الى قادة. وجمهور الامة يتحول الى مطيعين ومنقادين لا الى مشاركين في الابداع والتطوير وهذه المرحلة هي المرحلة التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله « وقالوا ربنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا » (الأحزاب/67).

 ثم تأتي المرحلة الثالثة. مرحلة الامتداد التاريخي لهؤلاء. هذه السلطة تتحول الى طبقة بعد ذلك تتوارث مقاعدها عائليا أو طبقيا وراثيا بشكل من اشكال الوراثة ، وحينئذ تصبح هذه الطبقة هي الطبقة المترفة المنعمة الخالية من الاغراض الكبيرة ، المشغولة بهمومها الصغيرة وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله « وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون » (الزخرف/23)
 هؤلاء امتداد تاريخي لآباء لهم تاريخ وهم امتداد تاريخي ، وهذا الامتداد التاريخي تحول من مستوى مثل وعطاء الى مستوى طبقة مترفة تتوارث هذا المقعد بشكل من اشكال التوارث.

هذه هي المرحلة الثالثة ثم حينما تتفتت الامة ، حينما تتمزق الامة ، حينما تفقد ولاءها لذلك المثل التكراري على ضوء ما قلناه تدخل في مرحلة رابعة وهي اخطر المراحل ففي هذه المرحلة يسيطر عليها مجرموها ، يسيطر عليها اناس لا يرعون الا ولاذمة وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى « وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم » (الأنعام/123)
حينئذ يسيطر مجموعة من هؤلاء المجرمين ، يسيطر هتلر والنازية مثلا في جزء من أوروبا لكي يحطم كل ما في أوروبا من خير وكل ما فيها اوروبا من ابداع ، لكي يقضي على كل تبعات ذلك المثل الاعلى الذي رفعه الانسان الاوروبي الحديث والذي تحول بالتدريج الى مثل تكراري ثم تفسخ هذا المثل لكن بقيت مكاسبه في المجتمع الاوروبي. يأتي شخص كهتلر لكي يمزق كل تلك المكاسب ويقضي عليها.

 الان نصل الى النوع الثالث من المثل العليا وهو الله سبحانه وتعالى. في هذا المثل التناقض الذي واجهناه سوف يحل بأروع صورة.
كنا نجد تناقضا وحاصل هذا التناقض هو ان الوجود الذهني للانسان محدود ، والمثل يجب ان يكون غير محدود فكيف يمكن توفير المحدود وغير المحدود وكيف يمكن التنسيق بين المحدود وغير المحدود. هذا التنسيق سوف نجده في المثل الاعلى الذي هو الله سبحانه وتعالى .. لماذا؟

لان هذا المثل الاعلى ليس من نتاج الانسان ، ليس افرازا ذهنيا للانسان ، بل هو مثل أعلى عيني له واقع عيني. هو موجود مطلق في الخارج ، له قدرته المطلقة وله علمه المطلق وله عدله المطلق.

 هذا الوجود العيني بواقعه العيني يكون مثلا اعلى لانه مطلق لكن الانسان حينما يريد ان يستلهم من هذا النور ، حينما يريد ان يمسك بحزمة من هذا النور ، طبعا هو لا يمسك الا بالمقيد ، الا بقدر محدود من هذا النور الا انه يميز بين ما يمسك به وبين مثله الاعلى.

 المثل الاعلى خارج حدود ذهنه ، لكنه يمسك بحزمة من النور. هذه الحزمة مقيدة لكن المثل الاعلى مطلق ، ومن هنا حرص الاسلام على التمييز دائما بين الوجود الذهني وما بين الله سبحانه وتعالى الذي هو المثل الاعلى. فرق حتى بين الاسم والمسمى وأكد على انه لا يجوز عبادة الاسم. وانما تكون العبادة للمسمى لان الاسم ليس الا وجودا ذهنيا ، الا واجهة ذهنية لله سبحانه وتعالى. بينما الواجهات الذهنية دائما محدودة العبادة يجب ان تكون للمسمى لا للاسم لان المسمى هو المطلق اما الاسم فهو مقيد ومحدود. الواجهات الذهنية تبقى كواجهات ذهنية محدودة مرحلية واما صفة المثل الاعلى فتبقى قائمة بالله سبحانه وتعالى.


 من دروس السيد محمد باقر الصدر "مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن"




الخميس، 24 أبريل 2014

مقدمات في التفسير المضوعي ...الدرس التاسع


قلنا في ما سبق ان اكتشاف الابعاد الحقيقية لدور الدين في حركة التاريخ والمسيرة الاجتماعية للانسان تتوقف على تحقيق وتقييم دور العنصرين او الركنين الثابتين في الصيغة وهما الانسان والطبيعة.

الآن نتحدث عن الانسان ودور الانسان في الحركة التاريخية من زاوية مفهوم القرآن الكريم.

من الواضح على ضوء المفاهيم التي قرأناها سابقا ان الانسان أو المحتوى الداخلي للانسان هو الاساس لحركة التاريخ واننا ذكرنا ان حركة التاريخ تتميز عن كل الحركات الاخرى بانها حركة غائية لا سببية فقط ، ليست مشدودة الى سببها ، الى ماضيها. بل هي مشدودة الى الغاية لانها حركة هادفة لها علة غائية متطلعة الى المستقبل.

 فالمستقبل هو المحرك لأي نشاط من النشاطات التاريخية. والمستقبل معدوم فعلا وانما يحرك من خلال الوجود الذهني الذي يتمثل فيه هذا المستقبل. اذن ، فالوجود الذهني هو الحافز والمحرك والمدار لحركة التاريخ.

وهذا الوجود الذهني يجسد من ناحية جانبا فكريا وهو الجانب الذي يضم تصورات الهدف ، وايضا يمثل من جانب آخر الطاقة والارادة التي تحفز الانسان نحو هذا الهدف.

 اذن هذا الوجود الذهني الذي يجسد المستقبل المحرك يعبر بجانب منه عن الفكر وفي جانب آخر منه عن الارادة وبالأمتزاج بين الفكر والارادة تتحقق فاعلية المستقبل ومحركيته للنشاط التاريخي على الساحة الاجتماعية.

 وهذان الامران الفكر والارادة هما في الحقيقة المحتوى الداخلي الشعوري للانسان. انه يتمثل في هذين الركنين الاساسيين وهما الفكر والارادة. اذن المحتوى الداخلي للانسان هو الذي يصنع هذه الغايات ويجسد هذه الاهداف من خلال مزجه بين فكرة وارادة. وبهذا صح القول بأن المحتوى الداخلي للانسان هو الاساس لحركة التاريخ.

 والبناء الاجتماعي العلوي بكل ما يضم من علاقات ومن انظمة ومن افكار وتفاصيل هذا البناء العلوي في الحقيقة مرتبط بهذه القاعدة في المحتوى الداخلي للانسان ويكون تغيره وتطوره تابعا لتغير هذه القاعدة وتطورها فاذا تغير الاساس تغير البناء العلوي ، واذا بقي الاساس ثابتا ، بقي البناء العلوي ثابتا.

فالعلاقة بين المحتوى الداخلي للانسان والبناء الفوقي والتاريخي للمجتمع ، هذه العلاقة علاقة تبعية أي علاقة سبب بسبب. هذه العلاقة تمثل سنة تاريخية تقدم الكلام عنها في قوله سبحانه وتعالى «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ».

 هذه الآية واضحة جدا في المفهوم الذي اعطيناه وهو ان المحتوى الداخلي للإنسان هو القاعدة والأساس لبناء العلوي ، للحركة التاريخية لان الاية الكريمة تتحدث عن تغييرين احدهما تغيير القول « ان الله لا يغير ما بقوم » يعني تغيير اوضاع القوم ، شؤون القوم ، الابنية العلوية للقوم ، ظواهر القوم ، هذه لا تتغير حتى يتغير ما بأنفس القوم.

 اذن التغيير الاساس هو تغيير ما بنفس القوم والتغيير النابع المترتب على ذلك هو تغيير حالة القوم النوعية والتاريخية والاجتماعية ومن الواضح ان المقصود من تغيير ما بالانفس. تغيير ما بأنفس القوم بحيث يكون المحتوى الداخلي للقوم كقوم وكأمة وكشجرة مباركة تؤتي أكلها كل حين متغيرا. والا تغير الفرد الواحد او الفردين او الافراد الثلاثة لا يشكل الاساس لتغير ما بالقوم ، وانما يكون تغير ما بالقوم تابعا لتغير ما بأنفسهم كقوم وكأمة وكشجرة مباركة تؤتي اكلها كل حين. فالمحتوى النفسي والداخلي للامة كأمة لا لهذا الفرد او لذلك الفرد هو الذي يعتبر أساسا وقاعدة للتغييرات في البناء العلوي للحركة التاريخية كلها.

الاسلام والقرآن الكريم يؤمن بأن العمليتين يجب ان تسيرا جنبا الى جنب في عملية صنع الانسان لمحتواه الداخلي وبناء الانسان لنفسه ولفكره ولارادته ولمطموحاته. هذا البناء الداخلي يجب ان يسير جنبا الى جنب مع البناء الخارجي ، مع الابنية العلوية ولا يمكن ان يفترض انفكاك البناء الداخلي عن البناء الخارجي الا اذا بقي البناء الخارجي بناءا مهزوزا متداعيا. ولهذا سمى الاسلام عملية بناء المحتوى الداخلي اذا اتجهت اتجاها صالحا بـ « الجهاد الاكبر ». وسمى عملية البناء الخارجي اذا اتجهت اتجاها صالحا بعملية « الجهاد الاصغر » وربط الجهاد الاصغر بالجهاد الاكبر واعتبر ان الجهاد الاصغر اذا فصل عن الجهاد الاكبر فقد محتواه ومضمونه ، بل فقد قدرته على التغيير الحقيقي على الساحة التاريخية والاجتماعية. 

اذن هاتان العمليتان يجب ان تسيرا جنبا الى جنب. فاذا انفكت احداهما عن الاخرى فقدت حقيقتها ومحتواها وسمى الاسلام العملية الاولى عملية بناء المحتوى الداخلي بالجهاد الاكبر تأكيد على الصفة الاساسية للمحتوى الداخلي وتوضيحا لهذه الحقيقة ، حقيقة ان المحتوى الداخلي للانسان هو الاساس ولهذا سمي بالجهاد الاكبر. فاذا بقي الجهاد الاصغر منفصلا عن الجهاد الاكبر ، حينئذ لا يحقق ذلك في الحقيقة أي مضمون تغييري صالح.

القرآن الكريم يعرض لحالة من حالات انفصال عملية البناء الخارجي عن عملية البناء الداخلي قال سبحانه وتعالى « ومن الناس من يعجبه قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو الدّ الخصام. واذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد » (سورة البقرة : الآية (٢٠٤ ـ ٢٠٥).
 يريد ان يقول بان الانسان اذا لم ينفذ بعملية التغيير الى قلبه والى اعماق روحه ، اذا لم يبن نفسه بناءا صالحا لا يمكنه ابدا ان يطرح الكلمات الصالحة. التي يمكن ان تتحول الى بناء صالح في المجتمع اذا نبعت عن قلب يعمر بالقيم التي تدل عليها تلك الكلمات والا فتبقى الكلمات مجرد الفاظ جوفاء دون ان يكون لها مضمون ومحتوى. فمسألة القلب هي التي تعطي للكلمات معناها وللشعارات ابعادها ولعملية البناء الخارجي اهدافها ومسارها.

 الى هنا عرفنا ان الاساس في حركة التاريخ هو المحتوى الداخلي للانسان. وهذا المحتوى الداخلي للانسان يشكل القاعدة.

الان نتساءل : ما هو الاساس في هذا المحتوى الداخلي نفسه ، ما هي نقطة البدء في بناء هذا المحتوى الداخلي للانسان ، وما هو المحور الذي يستقطب عملية بناء المحتوى الداخلي للانسان؟

هو المثل الاعلى ، عرفنا ان المحتوى الداخلي للانسان يجسد الغايات التي تحرك التاريخ ، يجسدها من خلال وجودات ذهنية تمتزج فيها الارادة بالتفكير. وهذه الغايات التي تحرك التاريخ يحددها المثل الاعلى. فانها جميعا تنبثق عن وجهة نظر رئيسية الى مثل اعلى للانسان في حياته ، للجماعة البشرية في حياتها. وهذا المثل الاعلى هو الذي يحدد الغايات التفصيلية وينبثق عنه هذا الهدف الجزئي وذلك الهدف الجزئي فالغايات بنفسها محركة للتاريخ وهي بدورها نتاج لقاعدة اعمق منها في المحتوى الداخلي للانسان وهو المثل الاعلى الذي تتمحور فيه كل تلك الغايات وتعود اليه كل تلك الاهداف.

فبقدر ما يكون المثل الاعلى للجماعة البشرية صالحا وعاليا وممتدا تكون الغايات صالحة وممتدة ، وبقدر ما يكون هذا المثل الاعلى محدودا او منخفضا تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة ايضا.

 اذن المثل الاعلى هو نقطة البدء في بناء المحتوى الداخلي للجماعة البشرية. وهذا المثل الاعلى يرتبط في الحقيقة بوجهة نظر عامة الى الحياة والكون ، يتحدد من قبل كل جماعة بشرية على اساس وجهة نظرها العامة نحو الحياة والكون ، على ضوء ذلك تحدد مثلها الاعلى.

ومن خلال الطاقة الروحية التي تتناسب مع ذلك المثل الاعلى ومع وجهة نظرها الى الحياة والكون تحقق ارادتها للسير نحو هذا المثل وفي طريق هذا المثل. اذن هذا المثل الاعلى هو في الحقيقة ايضا يتجسد من خلال رؤية فكرية ومن خلال طاقة روحية تزحف بالانسان في طريقة ، وكل جماعة اختارت مثلها الاعلى ، فقد اختارت في الحقيقة سبيلها وطريقها ومنعطفات هذا السبيل وهذا الطريق كما رأينا ان الحركة التاريخية تتميز عن أي حركة اخرى في الكون بانها حركة غائية وهادفة وكذلك تتميز وتتمايز الحركات التاريخية انفسها بعضها عن بعض بمثلها العليا.

فلكل حركة تاريخية مثلها الاعلى ، وهذا المثل الاعلى هو الذي يحدد الغايات والاهداف وهذه الاهداف والغايات هي التي تحدد النشاطات والتحركات ضمن مسار ذلك المثل الاعلى.

 والقرآن الكريم والتعبير الديني يطلق على المثل الاعلى في جملة من الحالات اسم الاله باعتبار ان المثل الاعلى هو القائد الآمر المطاع الموجه. هذه صفات يراها القرآن لاله ولهذا يعبر عن كل من يكون مثل اعلى ، كل ما يمثل مركز المثل الاعلى يعبر عنه بالاله لانه هو الذي يصنع مسار التاريخ ، حتى ورد في قوله سبحانه وتعالى ( أرأيت من اتخذ الهه هواه ) ( سورة الفرقان : الآية (٤٣)) عبر حتى عن الهوى حينما يتصاعد تصاعدا مصطنعا فيصبح هو المثل الاعلى وهو الغاية القصوى لهذا الفرد او لذاك ، عبر عنه بانه اله.
 فالمثل العليا بحسب التعبير القرآني والديني هي آلهة في الحقيقة لانها هي المعبودة حقا وهي الآمرة والناهية حقا وهي المحركة حقا ، فهي آلهة في المفهوم الديني والاجتماعي. وهذه المثل العليا التي تتبناها الجمعات البشرية على ثلاثة اقسام :

القسم الاول :
المثل الاعلى الذي يستمد تصوره من الواقع نفسه ، ويكون منتزعا من واقع ما تعيشه الجماعة البشرية من ظروف وملابسات ، أي ان الوجود الذهني الذي صاغ المستقبل هنا لم يستطع أن يرتفع على هذا الواقع بل انتزع مثله الاعلى من هذا الواقع بحدوده وبقيوده وبشؤونه. وحينما يكون المثل الاعلى منتزعا عن واقع الجماعة بحدودها وقيودها وشؤونها تصبح حالة تكرارية ، تصبح بتعبير آخر محاولة لتجميد هذا الواقع وحمله الى المستقبل بدلا عن التطلع اليه فقط يكون في الحقيقة تجميدا لهذا الواقع وتحويله من حالة نسبية ومن امر محدود الى امر مطلق لان الانسان يعترضه هدفا ومثلا اعلى وحينما يتحول هذا الواقع من امر محدود الى هدف مطلق ، الى حقيقة مطلقة لا يتصور الانسان شيئا وراءها. حينما يتحول الى ذلك. سوف تكون حركة التاريخ حركة تكرارية لحالة سابقة ولهذا سوف يكون المستقبل تكرارا للواقع وللماضي.

هذا النوع من الآلهة يعتمد على تجميد الواقع وتحويل ظروفه النسبية الى ظروف مطلقة لكي لا تستطيع الجماعة البشرية ان تتجاوز الواقع وان ترتفع بطموحاتها عن هذا الواقع.

 تبني هذا النوع من المثل العليا له احد سببين : السبب الاول الالفة والعادة والخمول والضياع ، وهذا سبب نفسي ، واذا انتشرت هذه الحالة في مجتمع حينئذ يتجمد ذلك المجتمع لانه سوف يصنع الهة من واقعه ، سوف يحول هذا الواقع النسبي المحدود الذي يعيشه الى حقيقة مطلقة ، الى مثل اعلى الى هدف لا يرى وراءه شيئا ، وهذا في الحقيقة هو ما عرضه القرآن الكريم في كثير من الآيات التي تحدثت عن المجتمعات التي واجهت الانبياء حينما جاؤها بمثل عليا حقيقية ترتفع عن الواقع وتريد ان تحرك هذا الواقع وتنتزعه من حدوده النسبية الى وضع آخر.
 واجه هؤلاء الانبياء مجتمعات سادتها حالة الالفة والعادة والتميع فكان هذا المجتمع يرد على دعوة الانبياء ويقول باننا وجدنا اباءنا على هذه السنة ، وجدنا آباءنا على هذه الطريقة ونحن متمسكون بمثلهم الاعلى ، سيطرة الواقع على اذهانهم وتغلغل الحس في طموحاتهم بلغ الى درجة تحول هذا من خلالها الى انسان حسي لا الى انسان مفكر ، الى الى انسان يكون ابن يومه دائما ، ابن واقعه دائما لا أبا يومه أبا واقعه. ولهذا لا يستطيع ان يرتفع على هذا الواقع.
لاحظوا القرآن الكريم  

« قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون » (سورة البقرة/170).

» قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ، أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون » (سورة المائدة/104)

«قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين »(سورة يونس/78).

« أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب » (سورة نوح/62) ،

« قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والارض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى ، قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين » (سورة ابراهيم/10) 

«بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون » (سورة الزخرف/22)

 في كل هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم السبب الاول لتبني المجتمع هذا المثل الاعلى المنخفض. هؤلاء بحكم الالفة والعادة وبحكم التميع والفراغ وجدوا سنة قائمة. وجدوا وضعا قائما فلم يسمحوا لانفسهم بأن يتجاوزوه بل جسدوه كمثل اعلى وعارضوا به دعوات الانبياء على مر التاريخ ، هذا هو السبب الاول لتبني هذا المثل الاعلى المنخفض.

السبب الثاني لتبني هذا المثل الاعلى المنخفض هو التسلط الفرعوني على مر التاريخ ، الفراعنة حينما يحتلون مراكزهم يجدون في أي تطلع الى المستقبل وفي أي تجاوز للواقع الذي سيطروا عليه ، يجدون في ذلك زعزعة لوجودهم وهزا لمراكزهم. من هنا كان من مصلحة فرعون على مر التاريخ ان يغمض عيون الناس على هذا الواقع ، ان يحول الواقع الذي يعيشه مع الناس الى مطلق ، الى اله ، الى مثل أعلى لا يمكن تجاوزه ، يحاول ان يحبس وان يضع كل الامة في اطار نظرته هو ، في اطار وجوده هو لكي لا يمكن لهذه الامة ان تفتش عن مثل اعلى ينقلها من الحاضر الى المستقبل من واقعه الى طموح آخر أو أكبر من هذا الواقع.
 هنا السبب اجتماعي لا نفسي ، السبب خارجي لا داخلي.
 وهذا ايضا ما عرضه القرآن الكريم 
« وقال فرعون يا أيها الملأ ما عرفت لكم من إله غيري » (سورة القصص/38) 
« قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد » (سورة غافر/29)

هنا فرعون يقول ما أريكم إلا ما أرى  يريد ان يضع الناس الذين يعبدونه كلهم في اطار رؤيته في اطار نظرته ، يحول هذه النظرة وهذا الواقع ، الى مطلق لا يمكن تجاوزه هنا الذي يجعل المجتمع يتبنى مثلا اعلى مستمد من الواقع هو التسلط الفرعوني الذي يرى في تجاوز هذا المثل الاعلى خطرا عليه وعلى وجوده. 
قال الله سبحانه وتعالى
 «ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين. إلى فرعون وملأه فاستكبروا وكانوا قوما عالين. فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون » (سورة المؤمنون/45-47) 
نحن غير مستعدين ان نؤمن بهذا المثل الاعلى الذي جاء به موسى لانه سوف يزعزع عبادة قوم موسى وهارون لنا.
 اذن هذا التجميد ضمن اطار الواقع الذي تعيشه الجماعة أي جماعة بشرية ينشأ من حرص أولئك الذين تسلطوا على هذه الجماعة على ان يضمنوا وجودهم ويضمنوا الواقع الذي هم فيه وهم بناته. هذا هو السبب الثاني الذي عرضه القرآن الكريم.

 والقرآن الكريم يسمى هذا النوع من القوى التي تحاول ان تحول هذا الواقع المحدود الى مطلق وتحصر الجماعة البشرية في اطار هذا المحدود ، يسمي هذا بالطاغوت.
قال سبحانه وتعالى «والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك هم الذين هداهم الله وأولئك هم أولي الألباب » (سورة الزمر/17-18).
 لاحظوا ذكر صفة اساسية مميزة لمن اجتنب عبادة الطاغوت ما هي؟
قال « فبشر عباد. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه » .

يعني لم يجعلوا هناك قيدا على ذهنهم ، لم يجعلوا أطارا محدودا لا يمكنهم ان يتجاوزوه ، جعلوا الحقيقة مدار همهم هدفهم ولهذا يستمعون القول فيتبعون أحسنه يعني هم في حالة تطلع وموضوعية تسمح لهم بان يجدوا الحقيقة يتبعوها.
بينما لو كانوا يعبدون الطاغوت ، حينئذ يكونون في اطار هذا الواقع الذي يريده الطاغوت ، سوف لن يستطيعوا أن يستمعوا الى القول فيتبعون أحسنه وانما يتبعون فقط ما يراد لهم ان يتبعوه ، هذا هو السبب الثاني لاتباع وتبني هذه المثل.

 اذن خلاصة ما مر بنا حتى الان : أن التاريخ يتحرك من خلال البناء الداخلي للانسان الذي يصنع للانسان غاياته هذه الغايات تبني على اساس المثل الاعلى الذي تنبثق عنه تلك الغايات لكل مجتمع مثل اعلى ولكن مثل اعلى مسار ومسيرة وهذا المثل الاعلى هو الذي يحدد في تلك المسيرة معالم الطريق وهو على ثلاثة أقسام حتى الان استعرضنا القسم الاول من المثل العليا وهو المثل الاعلى الذي ينبثق تصوره عن الواقع ويكون منتزعا عن الواقع الذي تعيشه الجماعة وهذا مثل أعلى تكراري. وتكون الحركة التاريخية في ظل هذا المثل الاعلى حركة تكرارية ، أخذ الحاضر لكي يكون هو المستقبل وقلنا بان تبني هذا النوع من المثل الاعلى يقود الى احد سببين بحسب تصورات القرآن الكريم.

السبب الاول سبب نفسي وهو الالفة والعادة والضياع والسبب الاخر سبب خارجي وهو تسلط الفراعنة والطواغيت على مر التاريخ.



    من دروس السيد محمد باقر الصدر "مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن