هذه المثل العليا
المنخفضة المتنوعة عن الواقع والتي تحدثنا عنها في الدرس السابق في كثير من
الاحيان تتخذ طابع الدين ويسبغ عليها هذا الطابع من اجل اعطائها قدسية تحافظ على
بقائها واستمرارها على الساحة كما رأينا في الآيات الكريمة المتقدمة كيف ان
المجتمعات التي رفضت دعوة الانبياء كثيرا ما كانت تصر على التمسك بعبادة الآباء
وبدين الآباء بالمثل الاعلى المعبود للآباء.
بل ان الحقيقة أن كل مثل اعلى من هذه
المثل العليا المنخفضة لا ينفك عن الثوب الديني سواء ابرز بشكل صريح او لم يبرز
لان المثل الاعلى دائما يحتل مركز الاله بحسب التعبير القرآني والاسلامي ، ودائما
تستبطن علاقة الامة بمثلها الاعلى نوعا من العبادة ، من العبادة لهذا المثل الاعلى
وليس الدين بشكلها العام الاعلاقة عابد بمعبود.
إذن المثل الاعلى لا ينفك عن الثوب
الديني سواء كان ثوبا دينيا صريحا او ثوبا دينيا مستترا مبرقعا
تحت شعارات اخرى فهو في جوهره دين وفي جوهره عبادة وانسياق. الا ان هذه الاديان
التي تفرزها هذه المثل العليا المنخفضة اديان محدودة تبعا لمحدودية نفس هذه المثل
لما كانت هذه المثل مثلا منخفضة ومحدودة قد حولت بصورة مصطنعة الى مطلقات والا هي
في الحقيقة ليست الا تصورات جزئية عبر الطريق الطويل للانسان ، الا أنها
حولت الى مطلقات بصورة مصطنعة.
اذن هذه المحدودية في المثل تعكس الاديان التي
تفرزها فالاديان التي تفرزها هذه المثل او بالتعبير الاخرى الاديان التي يفرزها
الانسان من خلال صنع هذه المثل ، ومن خلال عملقة هذه المثل وتطويرها من تصورات الى
مطلقات هذه الاديان تكون اديانا محدودة وضئيلة وتجزئة، وهذه التجزئة في مقابل دين
التوحيد الذي سوف نتكلم عنه حينما نتحدث عن مثله الاعلى القادر على استيعاب
البشرية بابعادها واديان التجزئة هذه وهذه الالهة ، التي فرزها الانسان بين حين
وحين هي التي يعبر عنها القرآن الكريم بقوله « إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم
وآباؤكم » (النجم/23) فهذه الآلهة التي يفرزها الانسان ، هذا الدين الذي يصنعه
الانسان ، وهذا المثل الاعلى الذي هو نتاج بشري ، هذا لا يمكن ان يكون هو
الدين القيم ، لا يمكن ان يكون هو المصعد الحقيقي للمسيرة البشرية لان المسيرة
البشرية لا يمكن ان تخلق الهها بيدها.
المجتمعات والامم التي تعيش هذا المثل
الاعلى المنخفض المستمد من واقع الحياة ، قلنا بأنها تعيش حالة تكرارية يعني ان
حركة التاريخ تصبح حركة تماثلية وتكرارية وهذه الامة تأخذ بيدها ماضيها الى الحاضر
وحاضرها الى المستقبل ليس لها مستقبل في الحقيقة وانما مستقبلها هو ماضيها.
ومن هنا
اذا تقدمنا خطوة في تحليل ومراقبة ومشاهدة اوضاع هذه الامة التي تتمسك بمثل من هذا
القبيل اذا تقدمنا خطوة الى الامام نجد ان هذه الامة بالتدريج سوف تفقد ولاءها
لهذا المثل ايضا لن تظل متمسكة بهذا المثل لان هذا المثل بعد ان يفقد فاعليته
وقدرته على العطاء بعد ان يصبح نسخة من الواقع ويصبح اجرا مفروضا ومحسوسا وملموسا
وغير قادر على تطوير البشرية وتصعيدها في مسارها الطويل ، تفقد هذه البشرية وهذه
الجماعة بالتدريج ولاءها لهذا المثل ومعنى انها تفقد ولاءها لهذا المثل يعني ان
القاعدة الجماهيرية الواسعة في هذه الامة سوف تتمزق وحدتها لان وحدة هذه القاعدة
انما هي بالمثل الواحد فاذا ضاع المثل ضاعت هذه القاعدة.
هذه الامة بعد ان تفقد ولاءها لهذا المثل تصاب بالتشتت ، بالتمزق ،
بالتبعثر ، تكون كما وصف القرآن الكريم « بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى
ذلك بأنهم قوم لا يعقلون »(الحشر/14). بأسهم بينهم شديد باعتبار أن هذه الامة التي لا يجمعها شيء الا
تماثل الوجوه وتقارب الوجوه لا يجمعها مثل اعلى لا تجمعها طريقة مثلى ، لا يجمعها
سبيل واحد ، قلوب متفرقة اهواء متشتتة ارواح مبعثرة وعقول مجمدة في حالة من هذا
القبيل لا تبقى امة وانما يبقى شبح امة فقط ، وفي ظل هذا الشبح سوف ينصرف كل فرد
في هذه الامة ينصرف الى همومه الصغيرة ، الى قضاياه المحدودة لانه لا يوجد هناك
مثل اعلى تلتف حوله الطاقات ، تلتف حوله القابليات والامكانات تحشد من اجله
التضحيات لا يوجد هذا المثل الاعلى حينما يسقط هذا المثل الاعلى تسقط الراية التي
توحد الامة، يبقى كل انسان مشدود الى حاجاته المحدودة ، الى مصالحه الشخصية الى
تفكيره في اموره الخاصة كيف يصبح وكيف يمسي وكيف ياكل وكيف يشرب وكيف يوفر الراحة
والاستقرار له ولاولاده ولعائلته أي راحة وأي استقرار ، الراحة بالمعنى
الرخيص ، بالمعنى
القصير من الاستقرار يبقى كل انسان سجين حاجاته الخاصة ، سجين رغباته الخاصة يبقى
يدور ويلتف حول هذه الرغبات وحول هذه الحاجات لا يرى غيرها ان لا يوجد المثل ، اذ
ضاع المثل وتفتت وسقط في حالة من حالات هذه الامة ، قلنا بأن الامة تتحول الى شبح
لا يبقى امة حقيقية ، وانما هناك شبح امة وقد علمنا التاريخ انه في حالة من هذا
القبيل توجد ثلاث اجراءات ، ثلاث بدائل يمكن ان تنطبق على حالة هذه الامة الشبح.
الاجراء التاريخي الاول
هو ان تتداعى هذه الامة امام غزو عسكري من الخارج لان هذه الامة التي افرغت من
محتواها ، التي تخلت عن وجودها كأمة ، وبقيت كأفراد كل انسان يفكر في طعامه ولباسه
ودار سكناه ولا يفكر في الامة من يفكر. اذا ففي وضع من هذا القبيل يمكن ان تتداعى
هذه الامة امام غزو من الخارج ، وهذا ما وقع بالفعل بعد ان فقد المسلمون مثلهم
الاعلى وفقدوا ولاءهم لهذا المثل الاعلى ووقعوا فريسة غزو التتار حينما سقطت حضارة
المسلمين بايدي التتار هذا هو الاجراء التاريخي الاول.
والاجراء التاريخي
الثاني : هو الذوبان والانصهار في مثل اعلى اجنبي في مثل مستورد من الخارج هذه
الامة بعد ان فقدت
مثلها العليا النابعة منها فقدت فاعليتها واصالتها حينئذ تفتش عن مثل اعلى من
الخارج تعطيه ولاءها لكي تمنحه قيادتها.هذا هو الاجراء التاريخي الثاني.
والاجراء
التاريخي الثالث ان ينشأ في اعماق هذه الامة بذور اعادة المثل الاعلى من جديد
بمستوى العصر الذي تعيشه الامة ، هذان الاجراءان ، الثاني والثالث وقفت الامة
امامهما على مفترق طريقين حينما دخلت عصر الاستعمار ، كان هناك طريق يدعوها الى
الانصهار في مثل اعلى من الخارج هذا الطريق الذي طبقه جملة من حكام المسلمين في
بلاد المسلمين « رضاخان » في ايران و « اتاتورك » في تركيا ، حاول هؤلاء ان يجسدوا
المثل الاعلى للانسان الاوروبي المنتصر ويطبقوا هذا المثل الاعلى ويكسبوا ولاء
المسلمين انفسهم لهذا المثل الاعلى بعد ان ضاع المثل الاعلى في داخل المسلمين ،
بينما رواد الفكر الاسلامي في بدايات عصر الاستعمار وفي أواخر الفترة التي سبقت
عصر الاستعمار ، رواد الفكر الاسلامي ورواد النهضة الاسلامية اطلقوا جهودهم في
سبيل الاجراء الثالث في سبيل اعادة الحياة الى الاسلام من جديد في سبيل انتشار هذا
المثل الاعلى واعادة الحياة اليه وتقديمه بلغة العصر وبمستوى العصر
وبمستوى حاجات المسلمين. الامة تتحول الى شبح فتواجه احد هذه الاجراءات الثلاثة.
الان تكلمنا عن امة هذه
الالهة المنخفضة. اذا تقدمنا خطوة نجد المثل التكراري يتمزق ، ان الامة تفقد
ولاءها ، ان الامة تتحول الى شبح احد هذه اجراءات الثلاثة ، الان نرجع الى الوراء
خطوة. سوف نواجه النوع الثاني من الالهة من المثل العليا اليس قلنا في البداية ان
المثل العليا عكس ثلاثة انواع. تكلمنا الان عن النوع الاول.
اذا رجعنا خطوة اخرى
الى الوراء وهذا ما سوف اشرح معناه بعد لحظات. سوف نواجه النوع الثاني من الالهة
من المثل العليا. هذا النوع الثاني يعبر عن كل مثل أعلى للامة يكون مشتقا من طموح
الامة ، من تطلعها نحو المستقبل ، ليس هذا المثل تعبير تكراريا عن الواقع بل هو
تطلع الى المستقبل وتحفز نحو الجديد والابداع ، والتطوير ولكن هذا المثل منتزع عن
خطوة واحدة من المستقبل منتزع عن جزء من هذا الطريق الطويل المستقبلي أي ان هذا
الطموح الذي منه انتزعت الامة مثلها كان طموحا محدودا كان طموحا مفيدا لم يستطع ان
يتجاوز المسافات الطويلة ، وانما استطاع ان يكون رؤية مستقبلية محدودة ،
وهذه الرؤية المستقبلية المحدودة انتزع منها مثلها الاعلى وفي هذا المثل الاعلى
جانب موضوعي صحيح ولكنه يحتوي على امكانيات خطر كبير اما الجانب الموضوعي الصحيح
فهو ان الانسان عبر مسيرته الطويلة لا يمكنه ان يستوعب برؤيته الطريق الطويل
الطويل كله ، لا يمكنه ان يستوعب المطلق لان الذهن البشري محدود والذهن البشري
المحدود لا يمكن ان يستوعب المطلق وانما هو دائما يستوعب نفحة من المطلق ، شيئا من
المطلق يأخذ بيده قبضة من المطلق تنير له الطريق ، تنير الدرب.
فكون دائرة
الاستيعاب البشري محدودة هذا أمر طبيعي أمر صحيح وموضوعي. ولكن الخطير في هذه
المسألة ان هذه القبضة التي يقبضها الانسان من المطلق هذه القبضة هذه الكومة
المحدودة ، هذه الومضة من النور التي يقبضها من هذا المطلق يحولها الى نور
السماوات والارض ، يحولها الى مثل اعلى ، يحولها الى مطلق. هنا يكمن الخطر لانه
حينما يصنع مثله الاعلى وينتزع هذا المثل من تصور ذهني محدود للمستقبل ، لكن يحول
هذا التصور الذهني المحدود الى مطلق حينئذ هذا المثل الاعلى سوف يخدمه في المرحلة
الحاضرة سوف يهيء له امكانية النمو بقدر طاقات هذا المثل ، بقدر ما يمثل المستقبل ، بقدر
امكاناته المستقبلية سوف يحرك هذا الانسان وينشطه لكن سرعان ما يصل الى حدوده
القصوى. وحينئذ سوف يتحول هذا المثل نفسه الى قيد للمسيرة ، الى عائق عن التطور ،
الى مجمد لحركة الانسان لانه اصبح مثلا اصبح الها ، أصبح دينا ، أصبح واقعا قائما
، وحينئذ سوف يكون بنفسه عقبة أمام استمرار زحف الانسان نحو كماله الحقيقي ، وهذا
المثل الذي يعمم خطأ يحول من محدود الى مطلق خطأ.
التعميم فيه تارة يكون
تعميما افقيا خاطئا وأخرى تعميما زمنيا خاطئا. هناك تعميمان خاطئان لهذا المثل.
هناك تعميم افقي خاطئ وهناك تعميم زمني عمودي خاطئ.
التعميم الأفقي الخاطئ
: ان ينتزع الانسان من تصوره المستقبلي مثلا ويعتبر ان هذا المثل يضم كل قيم
الانسان التي يجاهد من اجلها ويناضل في سبيلها. بينما هذا المثل على الرغم من صحته
الا انه لا يمثل الا جزءا من هذه القيم. فهذا التعميم تعميم افقي خاطئ هذا المثل
يكون معبرا عن جزء من افق الحركة بينما جرد منه ما يملأ كل افق الحركة. الانسان
الاوروبي الحديث في بدايات عصر النهضة وضع مثلا اعلى وهو الحرية جعل الحرية مثلا
اعلى لانه راى ان الانسان الغربي كان محطما ومقيدا ، كانت
على يديه الاغلال في كل ساحات الحياة كان مقيدا في عقائده العلمية والدينية بحكم
الكنيسة وتعنتها كان مقيدا في قوته ورزقه بأنظمة الاقطاع كان مقيدا اينما يسير.
اراد الانسان الاوروبي الرائد لعصر النهضة ان يحرر هذا الانسان من هذه القيود ، من
قيود الكنيسة ، من قيود الاقطاع اراد ان يجعل من الانسان كائنا مختارا اذا اراد ان
يفعل يفعل ، يفكر بعقله لا بعقل غيره ويتصور ويتأمل بذاته ولا يستمد هذا التصور
كصيغ ناجزة من الاخرين ، وهذا شيء صحيح الا ان الشيء الخاطئ في ذلك هو التعميم
الافقي فان هذه الحرية بمعنى كسر القيود عن هذا الانسان ، هذا قيمة من القيم هذا
اطار للقيم ولكن هذا وحده لا يصنع الانسان ، انت لا تستطيع ان تصنع الانسان بان
تكسر عنه القيود وتقول له افعل ما شئت ، لا يوجد انسان ولا كائن ، لا يوجد اقطاعي
ولا قسيس ولا سلطان ولا طاغوت يضطرك الى موقف او يفرض عليك موقفا.
هذا وحده لا
يكفي فان كسر القيوم انما يشكل الاطار للتنمية البشرية الصالحة ، يحتاج هذا الى
مضمون الى محتوى مجرد انه يستطيع ان يتصرف ، يستطيع ان يمشي في الاسواق هذا لا
يكفي ، اما كيف ويمشي وما هو الهدف الذي من اجله يمشي في الاسواق المحتوى والمضمون هو
الذي فات الانسان الاوربي ، الانسان الاوربي جعل الحرية هدفا وهذا صحيح ولكنه صير
من هذا الهدف مثلا اعلى بينما هذا الهدف ليس الا اطار في الحقيقة وهذا الاطار
بحاجة الى محتوى والى مضمون واذا جرد هذا الاطار عن محتواه سوف يؤدي الى الويل
والدمار ، الى الويل الذي تواجهه الحضارة الغربية اليوم التي صنعت للبشرية كل
وسائل الدمار لان الاطار بقي بلا محتوى بقي بلا مضمون حينئذ. هذا هو مثلا للتعميم
الافقي ، التعميم الافقي للمثل الاعلى.
واما التعميم الزمني
ايضا كذلك على مر التاريخ توجد خطوات ناجحة تاريخيا ولكنها لا يجوز ان تحول من
حدودها كخطوة الى مطلق ، الى مثل اعلى يجب ان تكون ممارسة تلك الخطوة ضمن المثل
الاعلى لا ان تحول هذه الخطوة الى مثل اعلى حينما اجتمع في التاريخ مجموعة من
الاسر فشكلوا القبيلة. ومجموعة من القبائل فشكلت عشيرة ، ومجموعة من العشائر فشكلت
أمة هذه الخطوات صحيحة لتقدم البشرية وتوحيد البشرية ولكن كل خطوة من هذه لا يجب
ان تتحول الى مثل اعلى لا يجوز ان تتحول الى مطلق ، لا يجوز ان تكون العشيرة هي
المطلق الذي يحارب من اجله هذا الانسان وانما
المطلق الذي يحارب من اجله الانسان يبقى هو ذاك المطلق الحقيقي ، يبقى هو الله سبحانه
وتعالى ، الخطوة تبقى كاسلوب ولكن المطلق يبقى هو الله سبحانه وتعالى هذا التعميم
الزمني ايضا هو شكل من التعميم الخاطئ حينما يحول هذا المثل المنتزع من خطوة
محدودة عبر الزمن يحول الى مثل اعلى. وحال هذا الانسان الذي يحول هذه الرؤية
المحدودة عبر الزمن يحولها الى مطلق حاله حال الانسان الذي يتطلع الى الافق فلا
تساعده عينه الا الى النظر على مسافة محدودة فيخيل له ان الدنيا تنتهي عند الافق
الذي يراه ، ان السماء تنطبق على الارض على مسافة قريبة منه وقد يخيل له وجود
الماء ، وجود السراب على مقربة منه. الا ان هذا في الحقيقة ناشئ من عجز عينيه عن
ان يتابع المسافة الارضية الطويلة الامد.
كذلك هنا هذا الانسان
الذي يقف على طريق التاريخ الطويل ، على طريق المسيرة البشرية له افق يحكم قصوره
الذهني وبحكم محدودية الذهن البشري. له افق كذلك الافق الجغرافي ولكن هذا الافق
يجب ان يتعامل معه كافق لا كمطلق كما اننا نحن على الصعيد الجغرافي لا نتعامل مع
هذا الافق الذي نراه على بعد عشرين مترا او مائتي متر انه نهاية الارض. وانما نتعامل معه بأنه أفق.
كذلك ايضا هنا يجب ان يتعامل هذا الانسان معه كافق لا يحول هذا الافق التاريخي الى
مثل اعلى والا كان من قبيل من يسير نحو سراب ، انظروا الى التمثيل الرائع في قوله
سبحانه وتعالى : « والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءا حتى إذا
جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب » (النور/39).
يعبر القرآن عن كل هذه المثل المصطنعة من دون الله سبحانه وتعالى
بانها كبيت العنكبوت حيث يقول : « مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا
وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون » (العنكبوت/41).
اذا قارنا بين هذين
النوعين من المثل العليا المشتقة من الواقع والمثل العليا المشتقة من طموح محدود
للاحظنا ان المثل العليا المشتقة من الواقع كثيرا ما تكون قد مرت بمرحلة هذه المثل
التي تعبر عن طموح محدود. يعني كثيرا ما تكون تلك المثل من النوع الاول امتداداً
للمثل من النوع الثاني ، بأن يبدأ هذا المثل الاعلى مشتقا من طموح لكن حينما يتحقق
هذا الطموح المحدود ، حينما تصل
البشرية الى النقطة التي أثارت هذه المثل. يتحول هذا المثل الى واقع محدود بحسب
الخارج ، حينئذ يصبح مثلا تكراريا من هنا قلنا في ما سبق أننا لو رجعنا خطوة الى
الوراء بالنسبة الى الهة النوع الاول ، مثل النوع الاول. لو رجعنا الى الوراء لوجدنا
آلهة النوع الثاني فالمسألة في كثير من الاحيان تبدأ هكذا ، تبدأ بمثل اعلى له
طموح مشتق من طموح مستقبلي ثم يتحول هذا المثل الاعلى الى مثل تكراري ، ثم يتمزق
هذا المثل التكراري كما قلنا وتتحول الامة الى شبح أمة.
في هذه الفترة الزمنية تمر
الامة بمراحل في الحقيقة يمكننا تلخيصها في أربعة مراحل.
المرحلة الاولى هي مرحلة
فاعلية هذا المثل بحكم انه قد بدأ مشتقا من طموح مستقبلي ولكن طبعا هذه الفاعلية
وهذا العطاء هو عطاء يسميه القرآن بالعاجل ، هذه المكاسب عاجلة وليست مكاسب على
الخط الطويل. عاجلة لان عمر هذا المثل قصير ، وعطاءه محدود ، لان هذا المثل سوف
يتحول في لحظة من اللحظات الى قوة ابادة لكل ما أعطاه من مكاسب ولهذا يسمى
بالعاجل. انظروا الى قوله تعالى « من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما يشاء لمن نريد ثم جعلنا
له جهنم يصلاها مذموما مدحورا. ومن أراد الاخرة وسعى لها سعيا وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا. كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما
كان عطاء ربك محظورا» (الإسراء/18-20)
الله سبحانه وتعالى خير محض ، عطاء محض ، جود كله ، فبقدر ما
تتبنى الامة مثلا قابلا للتحريك. الله سبحانه وتعالى ايضا يعطي لكنه يعطي بقدر
قابلية هذا المثل يعطي شيئا عاجلا لا اكثر. في حالة من هذا القبيل تكون السلطة
التي تمثل هذا المثل ذات مثل اعلى ، ذات مثل يعطي ويبدع وتكون قيادة موجهة للامة
في حدود هذا المثل وتكون للامة دور المشاركة في صنع هذا المثل وفي تحقيق هذا
المثل. هذه المرحلة سوف تؤدي الى مكاسب ولكنها في النظر القرآني العميق الطويل
الامد مكاسب عاجلة تعقبها جهنم ، جهنم في الدنيا وجهنم في الآخرة. هذه المرحلة
الاولى مرحلة الابداع والتجديد.
المرحلة الثانية حينما
يتجمد هذا المثل الاعلى حينما يستنفذ طاقته وقدرته على العطاء حينئذ يتحول هذا
المثل الى تمثال والقادة الذين كانوا يعطون ويوجهون على أساسه يتحولون الى سادة
وكبراء لا الى قادة. وجمهور الامة يتحول الى مطيعين ومنقادين لا الى مشاركين في
الابداع والتطوير وهذه المرحلة
هي المرحلة التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله « وقالوا ربنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا
السبيلا » (الأحزاب/67).
ثم تأتي المرحلة الثالثة. مرحلة الامتداد التاريخي لهؤلاء. هذه
السلطة تتحول الى طبقة بعد ذلك تتوارث مقاعدها عائليا أو طبقيا وراثيا بشكل من
اشكال الوراثة ، وحينئذ تصبح هذه الطبقة هي الطبقة المترفة المنعمة الخالية من
الاغراض الكبيرة ، المشغولة بهمومها الصغيرة وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله
« وكذلك ما أرسلنا من
قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم
مقتدون » (الزخرف/23)
هؤلاء امتداد تاريخي لآباء لهم تاريخ وهم امتداد تاريخي ،
وهذا الامتداد التاريخي تحول من مستوى مثل وعطاء الى مستوى طبقة مترفة تتوارث هذا
المقعد بشكل من اشكال التوارث.
هذه هي المرحلة الثالثة ثم حينما تتفتت الامة ،
حينما تتمزق الامة ، حينما تفقد ولاءها لذلك المثل التكراري على ضوء ما قلناه تدخل
في مرحلة رابعة وهي اخطر المراحل ففي هذه المرحلة يسيطر عليها مجرموها ، يسيطر
عليها اناس لا يرعون الا ولاذمة وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم في
قوله سبحانه وتعالى « وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون
إلا بأنفسهم » (الأنعام/123).
حينئذ يسيطر مجموعة من هؤلاء المجرمين ، يسيطر هتلر والنازية
مثلا في جزء من أوروبا لكي يحطم كل ما في أوروبا من خير وكل ما فيها اوروبا من
ابداع ، لكي يقضي على كل تبعات ذلك المثل الاعلى الذي رفعه الانسان الاوروبي
الحديث والذي تحول بالتدريج الى مثل تكراري ثم تفسخ هذا المثل لكن بقيت مكاسبه في
المجتمع الاوروبي. يأتي شخص كهتلر لكي يمزق كل تلك المكاسب ويقضي عليها.
الان نصل
الى النوع الثالث من المثل العليا وهو الله سبحانه وتعالى. في هذا المثل التناقض
الذي واجهناه سوف يحل بأروع صورة.
كنا نجد تناقضا وحاصل هذا التناقض هو ان الوجود
الذهني للانسان محدود ، والمثل يجب ان يكون غير محدود فكيف يمكن توفير المحدود
وغير المحدود وكيف يمكن التنسيق بين المحدود وغير المحدود. هذا التنسيق سوف نجده
في المثل الاعلى الذي هو الله سبحانه وتعالى .. لماذا؟
لان هذا المثل الاعلى ليس
من نتاج الانسان ، ليس افرازا ذهنيا للانسان ، بل هو مثل أعلى عيني له واقع عيني. هو موجود مطلق في الخارج ،
له قدرته المطلقة وله علمه المطلق وله عدله المطلق.
هذا الوجود العيني بواقعه
العيني يكون مثلا اعلى لانه مطلق لكن الانسان حينما يريد ان يستلهم من هذا النور ،
حينما يريد ان يمسك بحزمة من هذا النور ، طبعا هو لا يمسك الا بالمقيد ، الا بقدر
محدود من هذا النور الا انه يميز بين ما يمسك به وبين مثله الاعلى.
المثل الاعلى
خارج حدود ذهنه ، لكنه يمسك بحزمة من النور. هذه الحزمة مقيدة لكن المثل الاعلى
مطلق ، ومن هنا حرص الاسلام على التمييز دائما بين الوجود الذهني وما بين الله
سبحانه وتعالى الذي هو المثل الاعلى. فرق حتى بين الاسم والمسمى وأكد على انه لا
يجوز عبادة الاسم. وانما تكون العبادة للمسمى لان الاسم ليس الا وجودا ذهنيا ، الا
واجهة ذهنية لله سبحانه وتعالى. بينما الواجهات الذهنية دائما محدودة العبادة يجب
ان تكون للمسمى لا للاسم لان المسمى هو المطلق اما الاسم فهو مقيد ومحدود.
الواجهات الذهنية تبقى كواجهات ذهنية محدودة مرحلية واما صفة المثل الاعلى فتبقى
قائمة بالله سبحانه وتعالى.
من دروس السيد محمد باقر الصدر "مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن"